لماذا استهداف تغييب القيم وفرض هوية أحادية؟

29 مارس 2023
29 مارس 2023

في الأحد المنصرم كتبت جريدة عُمان في رأيها اليومي، حول الاهتمام السامي لجلالة السلطان هيثم المعظم -حفظه الله ورعاه-، بأهمية تربية الأبناء التربية السليمة، واكتسابهم القيم من الدين الحنيف والحفاظ عليها، والتي أكد عليها جلالته في مناسبات عديدة، وقد لاقى هذا التوجيه السامي اهتماما بالغا، ليس على المستوى الوطني العماني، بل إن هذا الاهتمام لاقى صداه على مستوى دول مجلس التعاون، وعلى الوطن العربي عموما، باعتبار أن هذا الأمر يعد من الأولويات في هذه المرحلة التي يجب أن يضع لها ما يسهم في تعزيز القيم وترسيخها، ومواجهة ما يتم فرضه بمقولات الحرية والحقوق الفردية ومحاولة تعميمها على الثقافات والحضارات الأخرى، وهذا ما تم طرحه ومناقشته باستفاضة، من خلال: «المحور الرئيسي في الكلمة الافتتاحية للدورة 155 للمجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الأسبوع الماضي، وهو موضوع أخذ أيضا، حيزا نقاشيا واسعا في وسائل الإعلام العربية خلال الفترة الماضية».

ولا شك أن القيم الثقافية تتعدد وتتنوع بين البشر، وكل ثقافة لها حاضنة فكرية، تستمد منها قيمها ورؤيتها للدين والوجود والحياة، وهذا ما سارت عليه كل الحضارات الإنسانية، منذ بدء الخليقة، وهو أيضا حق من حقوق الإنسان في الحرية الشخصية، وما يتم وضعه من نظم وقوانين وتشريعات، ولذلك من المهم الاستمساك بحق الاختيار للنموذج الذي تراه كل أمة يوافق نظرتها وفطرتها الإنسانية، وهي الفطرة التي فطر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الناس عليها، كل بحسب دينه وفكره وثقافته، وهذا هو الذي يجعل الإنسان يسير باتزان، ويجمع بين الثوابت والمتغيرات، بين التراث الذي يملكه بما يحتويه من قيم ومعارف وحكم، وبين الجديد والحديث، الذي لا بد من التفاعل معه وفق حاجتنا، وليس مجرد التقليد، لما يستجد ويطرح، وقد أشرت في مقالة سابقة إلى أن الغرب نفسه عندما انفتح على عالم الإسلام، واطلع على حضارته، بعد الحروب الصليبية، منذ عدة قرون، أخذ منها ما يوافق قيمه وثقافته من علوم ومعارف فكرية مختلفة، لكن لم يأخذ شيئا من القيم العربية/ الإسلامية، مع انبهاره بهذا الفكر الذي كان مبدعا في كل العلوم في ذلك العصر، ولذلك ظل الغربيون متمسكين بقيمهم الخاصة، وهذا حقهم في الاختيار.

ومنذ ما يقرب عقدين من السنين، ومع ظهور شبكات التواصل، والوسائط الإعلامية المختلفة، مع تطور التقنيات الحديثة، بدأت تُستغل هذه الوسائط في بث بعض الأفكار والرؤى التي تهدم ولا تبني الإنسان بناء إيجابيا للشباب، بل تدعو إلى تبني نظرات سلبية خطيرة، مثل دعوات النسوية، والمثلية، ودعوات الإلحاد والتحلل من الالتزام الأخلاقي والعبثية الفكرية، ورفض القيم التي تجرم ما يخالف الشرائع والقوانين، التي هي سمة عامة تشترك فيها كل الديانات السماوية، وبعض الديانات الوضعية، وهذا بلا شك يعد دون أدنى مواربة تدق ناقوس الخطر لكل البشرية، وتهدد استقرارها الفكري والنفسي، وتهدد بالاضطراب في تلك النفوس التي انحرفت عن القيم التي هي من الأسس التي تسهم في التوازن النفسي.. مرة سُئل العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي، عن التقدم المادي الضخم الذي وصل إليه الغرب، ومنها دول وصل فيها التعليم والرخاء المادي والصحي شوطا كبيرا ـ السويد مثلا ـ: فجاء الرد من الشيخ الشعراوي عميقا ومنطقيا في الوقت نفسه فقال: صحيح أن السويد لا توجد بها مشكلات مادية ـ كما أشار إليها السائل ـ فهناك إشباع مادي، وتقدم علمي وصحي وظروف حياتية جيدة، وقد احتفلت السويد في عام 1971، بآخر أمي فيها، لكن لماذا عندهم أخطر الأمراض؟ هنا الأمر الذي يحتاج إلى جواب، ففي السويد يعاني الكثيرون من أمراض الجنون والانتحار والأمراض النفسية المتعددة، والاضطرابات العاطفية، فما هو السبب؟ هم لا ينقصهم شيء من الجوانب المادية والصحة والرخاء المعيشي، فدخل الفرد كبير جدا، والتعليم متقدم، لكن ينقصهم القيم، هناك إشباع مادي في جانب وغياب في الجانب الروحي في جانب آخر.

فالإنسان يجمع بين المادة والروح، فإذا حصل نقص في أحدهما يحصل الاضطراب»، ولا شك أن غياب القيم في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، تكون له آثار اجتماعية ونفسية وخيمة، مما يؤدي للانتحار أحيانا، وقد حصل مثل هذا في دول كثيرة، سببها غياب القيم، والركض وراء الأفكار الدخيلة التي لا تبني الفرد وتجعله متوازنا في حياته، بل تجعله رهينة لفكر مغترب، وهذا الاغتراب، تحدث عنه الكثير من المتخصصين في هذه المسألة، ومن هؤلاء الذين كتبوا عن الاغتراب في الوطن العربي د. حليم بركات، في كتابه: (الاغتراب في الثقافة العربية)، ومن نتائجه التبعية لفكر الآخر وثقافته، ومنها الاغتراب السلوكي، والتمرد على الأسرة أو العائلة، وهذه من المشكلات التي تعاني منها دول حديثة، التي أتاحت للأفكار البعيدة عن القيم أن تتغلغل في العديد من المجتمعات الغربية وغيرها، وتقوم بعض الدول بمحاولة تسويقها في العالم كله، باعتبارها من الحريات التي يجب أن تفرض على الجميع!

وهذا لا شك مخاطرة كبيرة جدا، حتى الدول التي تحاول أن تفرضه على الشعوب الأخرى، بحجج واهية وبطريقة عنجهية لا تقبلها الفطرة السليمة، ولا الحياة الإنسانية الهانئة، عندما يعتبر من السلوكيات العادية، وهو من الأشياء التي كانت محرمة حتى في ثقافتهم وفي دساتيرهم، وقد كتب بعض الباحثين الغربيين في العلوم الاجتماعية والنفسية والسلوكية عن مخاطر الأفكار في الغرب، من فلسفات ورؤى عبثية، وظهرت في الغرب وناقشت الآثار التي ستجنيها الإنسانية من هذه الفلسفات والنظريات الفكرية السلبية منها: كتاب (موت الإنسانية)، للكاتب «ريتشارد ويكارت»، وكتاب (الضمير وأعداؤه: مواجهة عقائد العلمانية والليبرالية) للكاتب «روبرت بي» بول فييرابند»، وكتاب (العلم والدين والطبيعانية)، للكاتب «ألفن بلانتنجا» وغيرها. فهذه الكتب والدراسات الفكرية الناقدة، تبرز مكامن الخطر الناتجة عن هذه الأفكار السلبية التي برزت في الغرب، وآثارها كبيرة حتى على المجتمع الغربي نفسه، الذي تشجعه بعض المنظمات الغربية بتسويق نماذجه السلبية، تحت ستار الحرية الشخصية وحقوق الإنسان. فهذا السلوك الذي تشجع عليه هذه المنظمات أو الدول، هو نوع من العدمية والعبثية، وألا معنى للحياة والفطرة الإنسانية السوية، التي تتجه اتجاها معاكسا وتخالف حتى البديهيات العقلانية، والتي تطالب بإلغاء الأفق لمعنى الحياة نفسها الطبيعية السوية، التي عاشتها البشرية منذ قرون من الاستقرار والمدنية، وهذه الرؤى التي تدعو للانفلات من كل قيمة وترى كل شيء نسبيا، وألا يجب أن تبقى هناك قوانين ملزمة، لما تريده بعض الدول أو المنظمات، لكن بعض الدول تراه مناقضا لتشريعاتها ونظمها القانونية وما استقرت عليه في دساتيرها، ولا يمكن القبول به.

وهو أيضا من ضمن الحريات الذاتية التي هي من حق الآخرين تقبلها أو رفضها، والغرب نفسه دائما يتحدث عن الحق في الحرية، وهو ما يناقضه بنفسه، وإلى جانب ذلك هو جزء من التعددية الاختيارية لكل أمة من الأمم، ولكل حضارة أو ثقافة تضع ما تشاء من القيم لنفسها، أما الفرض والإرغام على الآخرين من أجل قناعاته وثقافته وفكره، فهذا يعد استبدادا أو نوعا من القهر أو الاختراق تحت التهديد، والذي لا يمكن قبوله بهذا الفرض، وهو ما قاله الفيلسوف والمشّرع الفرنسي ومؤلف الكتاب الشهير (روح الشرائع)، عندما تحدث عن الحرية، فقال المقولة الشهيرة: (حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين)، وهذه شهادة من عقر دار الغرب الذي يريد أن يتجاوز حرية الآخرين، ليس بالإقناع، بل بمحاولة فرض ذلك، باتخاذ وسائل لفرضه، وهذا ما يعني إلغاء فكرة الحق في الإقناع. ولا شك أن الانفتاح الفكري والثقافي مع ظهور شبكات التواصل وغيرها من الوسائل في عصرنا الراهن، ساهمت بلا شك في تأثر بعض الشباب بالأفكار التي يتم تلقيها عبر هذه الوسائط، وهذا الأمر يحتاج إلى وعي بهذه المخاطر الفكرية والسلوكية على الأجيال الشبابية، من هذه الأفكار التي يتم الترويج لها باعتبارها فكرا ثقافيا حديثا، وهو ما يتطلب التحصين الذاتي، دون أن ننزوي عن التعرف على الجوانب الإيجابية فيما يبث في هذا العالم الافتراضي المفتوح. ولذلك فإن الدعوة التي تحدث عنها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ـ في أكثر من مناسبة، تجاه استلهام القيم الصحيحة من ديننا الحنيف، وأهمية ترسيخها من خلال الأسرة، تعتبر من الضروري الحفاظ عليها، بما يؤدي إلى إرساء القيم التي تربينا عليها ويجب ترسيخها في المدرسة والأسرة معا.