لعبة كراسي .. الحياة لم تغير أطوارها

01 يناير 2023
01 يناير 2023

يَتَسَيَّدُ الفهم "البرجماتي" النفعي على مفاصل الحياة اليومية، فيضفي على الصورة العامة التي يعيشها الناس التنافس، والتقاتل، حيث يتوغل مفهوم "الحياة للأقوى" والأقوى هنا من تكون له فضلة التميز، وليس من المهم كثيرا كيفية الوصول إلى ذلك، حيث تنبرئ الغاية كأحد أوجه الصراع القائمة بين الناس، وهو الأمر الذي يؤول إلى النهاية الختامية لمفهوم "لعبة الكراسي" حيث الفائز الواحد، والقيمة المضافة هنا ليست معنوية بل مادية بامتياز، فالمعنوية؛ غالبا؛ تنتصر للقيم الرفيعة، وفي هذه اللعبة فالأمر لا ينحاز إلى القيم بقدر ما ينحاز إلى المادة، حيث تستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وهي صورة مستساغة، ومقبولة وتعد في إطار حركة الحياة اليومية، ولا تشكل ردات فعل غاضبة أو مرفوضة؛ إلا في حدود ضيقة جدا.

وعلى الرغم من أن لعبة الكراسي المعروفة، يكون فيها؛ ختاما؛ منتصر واحد، لم يهيئ نفسه لأن يكون على ظهر ذلك الكرسي، إلا لتيسر مجموعة الظروف التي ساعدته بسبب ضعف خصومه؛ وجد نفسه على كرسي مجرد من أي ألقاب كانت؛ تصدر هو لقب الفائز، ويقر الآخرون بمحنتهم "الهزيمة" حيث لم يجدوا ولا كرسيا واحد يقبل بهم؛ وفق قانون اللعبة المصغر، ووفق قانون الحياة الكبير، الذي لا يرى في المهزوم أنه منتصرا، ولو حقق مكاسب في يوم ما، وكانت موضع إشادة وإعجاب، والفهم العام للحياة في جوهره لا يخرج عن هذه الصورة التنافسية، والتي يمثلها كرسي، وتقف في نهايتها على كرسي "وحيد" حيث لا ثنائية في مجمل الكراسي المعروضة للتنافس، ولذلك لا يساورك العجب إن رأيت في جامع ما؛ وخاصة يوم الجمعة، أن هناك شخصا ما متأبطا كرسيه لكي ييسر له أمر صلاته في راحة تامة، ليقينه أن كرسيه هذا هو الذي يمكن أن يضمن وجوده في زحمة المصلين، حيث تظل الكراسي محدودة، ومن يحتاج إلى كراسي ليجلس عليها أكثر بكثير من الكراسي التي توفرها المساجد، فهل شاهدتم في المواقف المختلفة أن هناك كراسي زائدة تنتظر من يجلس عليها؟ هذه الصورة ليست إسقاطا للفكرة، فهناك الكثيرون من الواقفين ينتظرون فرصة سانحة للجلوس على كرسي تركه صاحبه.

هناك خلط ما؛ في مفهوم العلاقة التزامنية بين الزمن، ونسق الحياة الذي تتجاذبه مجموعة من العناصر الفاعلة حيث يتم إسقاط الزمن على هذه العناصر الفاعلة في الحياة، ويقال لك أن الزمن "تغير" وفي حقيقة الأمر أن الزمن لم يتغير، إنما العناصر الفاعلة في الحياة هي التي تكسب الحياة ثوبا مختلفا عما كان عليه الواقع قبل ذلك، هل هذا المكتسب إيجابيا أو سلبيا؟ هنا مساحة ممتدة من الخلاف، ومن الأخذ والرد، والتنازع والتصادم، فالزمن وفق سياقه الطبيعي مستمر، ليل يعقبه نهار، والناس فيه بين نائم وصاح، والنوم والصحوة هنا؛ ليست بمعنى الحالة البيولوجية المعروفة، وإنما مستوى القدرة على استغلال المساحة الزمنية المتاحة في هذه الاستمرارية الزمنية التي تبدأ بمشرق الشمس، وتنتهي بمغربها حيث يعود الناس إلى نقطة البداية، والبداية هنا هي المراجعة الذاتية لمن عنده القدرة على ذلك، والزمن بهذا التوصيف حالة موضوعية لا يمكن إنكارها، والحياة بهذا التوصيف هي واقع يقرأ وفق ماهو عليه من مكتسب، ولذلك ليس من المنطق أن يسقط الزمن في واقع الحياة فيؤثر فيها بصورة مباشرة دون حركة للكراسي، والدليل على ذلك أن هناك شعوبا تعيش نفس المسيرة الزمنية، ولكن حياتها رتيبة، وواهنة، وكسولة، وتكاد تقرأ خاتمتها، وأخرى تعيش نفس المسيرة الزمنية، ولكن حياتها حالة من الغليان والديناميكية، والتفاعل، وهذه لا تتجاوز موضوعية الزمن ولكن توظف عناصرها الخاصة بها، التوظيف الصحيح، بينما الأولى لا ترى في الزمن إلا لحظة عمرية قدر لها أن تعيشها وفق سياقها الطبيعي البسيط، وفي لعبة الكراسي أيضا؛ يتم تجاهل الموضوعية والواقع والقفز المبالغ فيه، وما يمر عليه من حرق المراحل؛ ولعل في ذلك ميزة حسنة؛ حيث تتدافع المراحل، فيتوقع أن ما ينجز بعد عشرين عاما قادمة، يتم إنجازه في أقل من عشرة أعوام قادمة، كما هو الحالة في التدافع على الكراسي، عندما يتقاتل خمسة أشخاص على أربعة كراسي، وأربعة على ثلاثة كراسي، وثلاثة على كرسيين، واثنان على كرسي واحد، ويحدث ذلك كله في لحظة زمنية قصيرة، وإن خلف، طابورا طويلا ممن تلقوا الهزيمة، لأنه ليس كل من يطمح إلى كرسي، جاء لينقذ عناصر الحياة من الموات؛ حيث تظل هناك شروط قاسية ليس يسيرا تحقيقها.

أشيع منذ زمن، وربما قد وصلت الإشاعة إلى يقين، من أن هناك من المزارعين يسرعون في الدورة الزمنية لإنضاج مزروعاتهم، كما يفعل ذلك مربوا الدواجن أيضا، ففي هذا التسارع هناك تطاول واضح على موضوعية الزمن، والدليل أننا نأكل الفاكهة بلا طعم، وكذلك الخضروات، وقد تحمل لنا هذه المنتوجات الكثير من السموم المسببة للمشاكل الصحية المختلفة، ومع ذلك فالناس شبه مستسلمون لهذا الواقع؛ فأغلب الناس يريدون أن يعيشوا وفقط، حيث يعقدون صفقة رابحة مع ذواتهم المستنفرة.

يشكل توالي السنوات منعطفا مهما للاقتراب من فهم أطوار الحياة وتطوراتها المتلاحقة، مع أن هذا التوالي يسير وفق نسق تراتبي لا يتغير، نعم؛ يشهد الكثير من تطور المادة التي يستخدمها الإنسان، والتي يأتي تطورها لحاجة الإنسان المادية؛ قبل كل شيء؛ حيث تلبي حاجياته الأساسية والكمالية على حد سواء، وهو تطور فارض نفسه تلبية للقدرة الذهنية عند هذا الإنسان الذي لن يروي غروره المادي إلا الفناء، حيث يقاتل قتالا مستميتا لينتقل من درجة السلم الأولى إلى الثانية، والثانية توقظ فيه النزعة النفعية ليصل إلى الثالثة، وبهذه النزعة يصل إلى الإنسان إلى مبتغاه في لحظته الآنية، كما هي لعبة الكراسي، ولكن طموحه لن يقف عند ذلك بل يسعى إلى الأبعد من ذلك، ومع توالي الأجيال بقدراتها الذهنية الجبارة تكتسب الحياة أبعاد مادية ومعرفية بفضل الجهد الذي يبذله الإنسان، ولكن هذا الإنسان لن تتغير فطرته فدوافعه البيولوجية تظل كما هي، وهذه الدوافع البيولوجية تكسي الحياة نسقا معينا، يكاد لا يغير من وجه السلوك الإنساني الشيء الكثير، فتغدو الحياة وكأنها تكرر ذات الصورة الدرامية في كل مرحلة، والدليل على ذلك بقاء العناوين العريضة التي يقاتل من أجلها الإنسان، أكان قتالا لإنهاء بعضها من الوجود، أو لبقاء بعضها الآخر، فعناوين: (الفقر، والجهل، والعنصرية، والغطرسة، والظلم، والتعدي، وانتهاك حقوق الإنسان، واحتلال الشعوب وتشريد بعضها، والحروب، واغتصاب الحقوق، وإشاعة الفوضى، وتشتت الشعوب، وسرقة الموارد الطبيعية، وتكريس التبعية، والقتل الجماعي، ونشر الأوبئة المصنعة مختبريا) فهذه وغيرها عناوين تتكرر المناشدة بها في كل عام، وفي كل مرحلة زمنية تمر، ومنذ نعومة أظفارنا نسمع عنها، وكبرنا معها، وسيتوارثها من بعدنا، ولا تزال تراوح مكانها بنفس مطالبها المتجذرة، على الرغم من أن خصص لها هيئات دولية، ومنظمات، ومؤسسات دولية وإقليمية، والحال لم يتغير إطلاقا، ولا حتى "قيد أنملة" وذلك لسبب وحيد وهي تداخلها في عناصر "لعبة الكراسي" الدولية، حتى وإن طُعِّمَتْ بقضايا مفتعلة تحمل طابعا عصريا – كقضايا المناخ، وقضايا الطاقة، وقضايا زيادة عدد السكان – وذلك كله لإلهاء الناس عن مطالبهم الأساسية، وما هذه المنظمات الدولية إلا أذرع سرطانية لتعزيز بقاء هذه الكراسي المتسلطة على مقدرات الشعوب الضعيفة، لا أكثر ولا أقل، وسيظل الحال كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويأتي افتعال الحروب النوعية؛ بين كل فترة زمنية وأخرى تماشيا مع هذا الإلهاء، وقلب موازين العدالة ليتحول المهزوم إلى فائز، بالمكر والخديعة، والفائز إلى مهزوم كحال كل الصراعات القائمة بين الأفراد، سواء الصراعات المباركة من قبل المجتمع والراعي لها، أو تلك المحرمة من قبل المجتمع والمنبوذة من قبله، وستظل الحياة وفق أطرها الثابتة، وتتوالى الأجيال لتعيش نفس ما عاشت عليه من سبقها – توظيفا لبيلوجياتها المختلفة - مع تجدد الأدوات والأفكار والقناعات.