لحظة التقييم الأممية.. دروس وتطلعات

14 فبراير 2023
14 فبراير 2023

شهد عام 2021 حدثا مهما وتاريخيا على صعيد الترابط بين موضوعات الغذاء وأهداف التنمية المستدامة 2030، إذ انعقد مؤتمر قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية - وهو الأول من نوعه - بتاريخ 16 أكتوبر، الذي صادف اليوم العالمي للغذاء، سبق هذا الحدث الاجتماع التمهيدي أو مؤتمر ما قبل القمة واستضافته روما خلال الفترة من 26 إلى 28 يوليو، وتضمن مراجعة وافية للحوارات ومسارات العمل الوطنية والإقليمية للدول الأعضاء، واتسم بتقديم مساحة للشباب للمشاركة في عملية صناعة السياسات والاستراتيجيات المتعلقة بالأنظمة الغذائية المستقبلية، عُقد مؤتمر قمة الأمم المتحدة افتراضيا بسبب جائحة كوفيد- 19، وتمت إدارة الحدث العالمي من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، وبمشاركة رسمية من 133 دولة، وحضور ما لا يقل عن 91 من قادة العالم الذين أظهروا التزامهم السياسي في دعم نظم الغذاء المحلية، اكتسب هذا المؤتمر تميزا من حيث منهجية التنفيذ، والغاية الاستراتيجية التي حملها للبشرية في وقتٍ عصيبٍ من الجائحة، حيث وجّه الأمين العام للأمم المتحدة الدعوة للحكومات والمنظمات والمجتمعات والأفراد إلى «تغذية الأمل لمستقبلٍ أفضل».

دعونا نقترب أكثر من واقع أنظمة الغذاء على مستوى العالم، نجدها تواجه تحديات يمكن وصفها بأنها حادة ومستمرة، وتتخذ عدة أشكال في آنٍ واحد، بدءا من تذبذب أسعار النفط وتداعياتها على أسعار الغذاء، وندرة الموارد الطبيعية، ومخاطر فقدان التنوع البيولوجي وتغيير المناخ، ومرورا بتحديات اتساع النطاق العالمي لسلاسل القيمة الغذائية، وانعكاساتها على سلامة وجودة الغذاء، وارتفاع الفاقد والمهدر من الأغذية، وزيادة التوترات الإقليمية والدولية التي تعمق من العجز الغذائي، وانتهاء بالصدمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية والأوبئة، والمشكلات المتعلقة بأنماط التغذية على المستوى المجتمعي والفردي، مثل سوء التغذية والسمنة المفرطة، ومختلف الأمراض المزمنة غير المعدية.

سعى مؤتمر قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية لعام 2021م إلى إيجاد الزخم الإيجابي لتسريع التغيير الجذري في أنظمة الغذاء، بالتركيز على تبني الابتكار كأولوية قصوى وعاجلة لتحقيق المرونة والشمولية، ففي سنة انعقاد المؤتمر حذر تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الصادر في 12 يوليو 2021م بأن تأثيرات الوباء من إغلاقات وغيرها قد ساهمت في زيادة الجوع، وبشكل تقديري واجه (811) مليون شخص في العالم فترات الإغلاق دون ما يسد الرمق، والعدد الحقيقي أكثر من ذلك بكثير، إذا أخذنا في الحسبان صعوبة الوصول للبيانات الدقيقة خلال الجائحة، كما أن وتيرة التعافي من الجائحة لا تعكس تقدما واضحا في مؤشرات محاربة الفقر والجوع ومختلف أشكال سوء التغذية.

ومع مركزية موضوعات الغذاء في التنمية المستدامة، تبنى المؤتمر وجميع اجتماعاته التحضيرية نمطا مستحدثا في إدارة النقاش العالمي المهم والمصيري، إذ أُطلقت عملية مشاركة واسعة النطاق قبل وأثناء القمة، بحثا عن أفكار جديدة وحلول قائمة على الأدلة، تحت شعار «كما يجمعنا الغذاء معا كثقافات ومجتمعات، فإنه يمكن أن يجمعنا معا حول طاولة المناقشات لرسم مستقبل أفضل للبشرية»، شملت الحوارات جميع الفاعلين في قلب النظم الغذائية من صغار المزارعين والمنتجين والمجتمعات المحلية والنساء والشباب، إلى الحكومات والقطاعات المعرفية والأكاديمية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والوكالات المانحة، وهيئات الأمم المتحدة، وتم تنفيذ مجموعة واسعة من الحوارات لتضمين مختلف وجهات النظر، والمبادرات والمقترحات الموجهة لمعالجة الأسئلة الأكثر إلحاحا في الترابط بين الغذاء والتنمية.

أسفرت هذه الحوارات المستندة إلى النهج التشاركي عن 300 التزامٍ يعكس موقفا عالميا مشتركا، وتم تسجيل 140 مبادرة قائمة على توظيف المعرفة الحالية والجديدة، سواء كانت تقنية وعلمية بحتة أو معرفة تقليدية، أو خبرات عملية في مختلف السياقات، مثل مبادرة استخدام البيانات الضخمة لتوسيع نطاق الزراعة الذكية، ومبادرة الابتكار الزراعي والقرى الذكية مناخيا، ومسرع الابتكار لبرنامج الغذاء العالمي، ومبادرة إنشاء منصة «100 مليون مزارع»، لدعم التحول نحو أنظمة غذائية خالية تماما من الانبعاثات.

عرَّفت هذه الحوارات الدور التمكيني للبحث العلمي والتطوير التقني والابتكار التكنولوجي والمجتمعي، كأدوات استراتيجية لمعالجة العديد من القضايا المتشابكة، مثل الأمن الغذائي والتغذوي، والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية للغذاء، وتم الاعتراف بالابتكار باعتباره مفتاح التمكين للأنظمة الغذائية المستدامة، وهو اعترافٌ تاريخي أُممي لم تشهده مؤتمرات الأمم المتحدة من قبل، إذ أوصى المؤتمر بضرورة تأطير ما أسمته «رافعات التغيير»، التي تشمل الابتكار المؤسسي والمعرفي والتكنولوجي والمجتمعي، وتمكين سلسلة القيمة في الابتكار، بتوظيف الرقمنة والبيانات والتقنيات المتقدمة، وبناء الشراكات والتحالفات المدفوعة بالمعرفة والخبرة والتجديد.

تميز هذا المؤتمر التاريخي بوجود شحنة عالية من الطموح والإصرار على تنفيذ التوصيات والمبادرات، التي خرجت ضمن خمسة مسارات استراتيجية أُطلق عليها «مقترحات تغيير اللعبة»، وهي تيسير الوصول إلى أغذية مأمونة وذات جودة، وتحفيز الاستهلاك المستدام، والإنتاج الأخضر، والتمكين الاقتصادي والاجتماعي، وضمان صمود الأنظمة الغذائية، إذ التزمت الدول بتشكيل الائتلافات التي تمتد عبر هذه المسارات الاستراتيجية، بناء على خبرات المبادرات الدولية رفيعة المستوى، وهي مبادرة عقد الأمم المتحدة للعمل من أجل التغذية (2016-2025)، وعقد دعم إنتاج الغذاء عبر الزراعة الأُسرية (2019-28)، والعقد الأخير لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (2021-2030)، بالإضافة إلى خارطة طريق مؤتمر قمة طوكيو للغذاء من أجل النمو 2021.

ومن أجل الحفاظ على الزخم والاهتمام الدوليين بالنظم الغذائية، حددت الأمم المتحدة عام 2023 لتكون أولى محطات تقييم مخرجات مؤتمر قمة النظم الغذائية، وأطلق عليها رسميا «لحظة التقييم الأُممية»، لكي تتيح مساحة المراجعة لالتزامات العمل التي تم التعهد بها خلال القمة، وكذلك لمشاركة قصص النجاح وعلامات التحول الإيجابي المبكرة، في تعزيز قدرة النظم الغذائية على الصمود والتكيف مع مختلف الصدمات والأزمات، وسيتم تنفيذ فعاليات لحظة التقييم الأممية على مدار ثلاثة أيام من 24 إلى 28 من شهر يوليو القادم، بتبادل الخبرات والدروس والمعارف وقياس وتحليل أثر مؤتمر القمة على المدى القصير، وتتجه الأنظار نحو هذه اللحظة بكثيرٍ من التطلعات بشأن دعم الفهم العالمي المشترك بدور النظم الغذائية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما في سياق تداعيات جائحة كورونا، وأزمة أسعار الغذاء الناتجة عن التوترات الإقليمية واضطرابات سلاسل التوريد.

إن من أهم الدروس المستفادة من الحراك الدولي بشأن نظم الغذاء المستدامة، هو أهمية الالتفات لدور المعرفة والابتكار في تحفيز هذه النظم على مستوى الممارسات والحوكمة والسياسات، إذ يمكن للابتكارات التكنولوجية والمعرفية التي تسترشد بالمعايير الأخلاقية للبحث العلمي والتطوير التقني والابتكار، أن توفر تفاعلات وشبكات جديدة لإعادة تكوين سلاسل القيمة وسلاسل التوريد، وإنتاج نظم غذائية خضراء، وهذا يستوجب بناء النظم الإيكولوجية للابتكار الغذائي وفق نهجٍ يعزز توظيف وتنمية جميع أشكال المعرفة المختلفة من تقنيات وخبرات عملية، وغرس الثقة بالمعرفة التقليدية وتثمينها، ثم تمكين هذه المعارف بالتخطيط الاستراتيجي المتكامل الذي يضمن إعداد استراتيجيات وخطط متسقة، وذلك برسم رؤية طموحة ومشجعة تؤدي فيها النظم الغذائية دورا مركزيا في بناء الاستدامة، وإدماج الأهداف الاستراتيجية للخروج بأولويات تتقاطع فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وإعداد دليل المبادئ التوجيهية لمتخذي القرار والشركاء على المستوى الوطني، وإتاحة المعرفة والخبرات في توعية المبتكرين الشباب ورواد الأعمال الناشئين، والشبكات الرئيسية في أنظمة الغذاء، ومجتمعات الممارسة المهنية.