لتصبح قائدًا ملهمًا .. كن كالإسفنجة أولًا

07 نوفمبر 2023
07 نوفمبر 2023

حينما نسمع عن قائد العمل الملهم فإن الصورة النمطية الأولى التي تتشكل في الأذهان تكون للشخصية المؤثرة والرزينة التي تحيطها هالة المعلم، لطالما ارتبط الإلهام بالمعلمين والفلاسفة والمفكرين الذين يمثلون القدوة المثلى، ولكن قيادة الأعمال لا تحتاج لهذا النموذج الأفلاطوني بسماته النبيلة، كل ما يحتاجه قائد العمل هو التركيز على تحقيق المبادئ الأساسية لدوره القيادي خلال أول تسعين يومًا من وجوده على دفة القيادة، وذلك من خلال اتباع مجموعة المفاتيح الحاسمة لصناعة القيادة الإدارية الناجحة، إذن، كيف يمكن لقادة العمل المستجدين تطبيق ذلك بشكل صحيح، وبناء بصمة «القائد الملهم» في وقت قياسي؟ في البدء دعونا نتذكر مختلف النماذج الملهمة التي أحدثت تأثيرًا في حياتنا الدراسية، أو في واقع العمل والوظيفة، نجد أن التأثير الحقيقي جاء من قبل أولئك الأشخاص الذين عشنا معهم تفاصيل يومية، وتعلمنا منهم كيف نواجه التحديات، وما زلنا نتذكر كلماتهم وتعليقاتهم، وفي كل مرة تعترضنا مشكلات نبحث في مخزون الذكريات عن موقف مشابه لنستلهم طرق حل هذه المعوقات، ولا يزال سلوكهم مترسخًا في اللاوعي، ويوجهنا مثل الطيار الآلي، وهكذا يتبين بأن القائد الملهم ليس ضربًا من الخوارق، ولكي تصبح ملهمًا فأنت لست بحاجة لأن تظهر على أغلفة الدوريات العالمية للإدارة، أو أن تشعل المسرح في محاضرات تيد أمام الجماهير الغفيرة، أو تنشر كتابًا مدويًا يتصدر قائمة المبيعات، أو تضع منشورًا في وسائل التواصل الاجتماعي وتحصد ملايين الإعجابات، كل ما عليك فعله هو أن تكون قائدًا واقعيًّا وأصيلًا، وتتبع المنهجيات التي تجعل من دورك القيادي مصدر إلهام للآخرين.

تزخر أدبيات الإدارة بالكثير من أساليب بناء القادة الملهمين، وتعد «منهجية التسعين يومًا» من أفضل طرق تعزيز أنماط القيادة الاستثنائية الموجهة نحو التأثير الإيجابي، وهي بعيدة جدًا عن التعقيدات النظرية لمفاهيم القيادة، فهي بالأساس تعتمد على تقسيم الأيام التسعين الأولى من مباشرة القائد لمهامه إلى ثلاث فترات، وتمتد مدة كل فترة إلى ثلاثين يومًا، ولكل فترة مجموعة من المبادئ التي يجب التركيز عليها من خلال المحددات السبعة التي تشمل نكران الذات، والتعاطف، والعزم، وتبنّي الفضيلة، والأصالة، والحياد العقلاني، والشمول. وتتمحور منهجية التسعين يوما حول المكونات الأساسية لأي عمل مؤسسي؛ وهي أولًا: العامل البشري الذي يضم الموظفين على مختلف المستويات، والمتعاملين والشركاء الخارجيين، وأصحاب المصلحة الرئيسيين، وثانيًا: العمليات المؤسسية التي تعكس سير العمل، ومسارات التخطيط ووضع السياسات، وثالثًا: المنتجات أو المخرجات أو الخدمات التي تقدمها المؤسسة لجمهور المستفيدين، وتتضمن المنهجية خطوات تفصيلية للمراحل الثلاث، ولكن الثلاثين الأولى هي الأكثر أهمية، وتتطلب من القائد أن يكون فيها «كالإسفنجة» من حيث استيعاب أكبر قدر ممكن من المعرفة، والفهم لطبيعة بيئة العمل، والفاعلين الأساسيين، والتركيز على المبادئ السبعة جميعها، وتتميز مرحلة الإسفنجة بأنها أساس تشكيل الشخصية القيادية، فهي تعكس في المقام الأول توجهات اهتمام القائد بما يطلق عليها «موضوعات الدرجة الأولى»، فاتجاهات اهتمام القائد خلال هذه الفترة الحاسمة هي التي ترسخ الانطباع الأول للسمة الإدارية والقيادية، وهنا يجب أن يدرك القادة المستجدون، أنه ليس سهلًا تغيير هذا الانطباع إذا تشكل، ولذلك عليهم التروي والتفكير عميقًا في الأجندات الأولى، وإعطاء الأولوية للنتائج طويلة المدى بدلًا من اقتناص المكاسب السريعة قصيرة المدى.وكذلك من المفيد أن يأخذ القادة المستجدون الوقت الكافي خلال الثلاثين يومًا الأولى في التفكير في التحديات التي تواجه أدوارهم في القيادة الإدارية، وترتيب الأولويات لملف موضوعات الدرجة الأولى، وذلك من مبدأ «اختَر معاركك»، ففي نهاية المطاف، لا يمتلك القادة الكثير من الوقت والموارد للوقوف عند جميع القضايا، لذلك من غير المجدي التوجه لمواجهة كل التحديات في البداية، وإنما يجب الوقوف عند «القضايا المقلقة» فقط التي تستحق المعالجة، مع الفهم الواعي بالفرق بين هذا التوجه الاستراتيجي وبين التغاضي المتعمد عن التحديات لجعل المهام القيادية أسهل قليلًا على المدى القصير، وهنا تظهر أهمية مرحلة الإسفنجة كذلك في ضرورة انتهاج الاعتدال في التفاؤل بأن بعض التحديات قد تتلاشى من تلقاء نفسها، هذا التوجه المفرط في الإيجابية يمكنه أن يضع غطاءً إيجابيًّا كاذبًا يمنع القائد من اتخاذ الإجراءات اللازمة في الوقت المناسب؛ لأن السبب الرئيسي للفشل في معالجة القضايا هو عدم الإلمام بطبيعة المشكلة ودرجة تأثيرها الحقيقي على العمل، وعدم اليقين المحيط بهذه المشاكل يؤدي إلى المماطلة في حلها، وخصوصًا إذا كانت التحديات ناتجة عن جوانب تكيفية تفرضها الإدارة الجديدة، مثل مقاومة التغيير التي تتسبب في إيجاد مناطق رمادية تحتاج إلى جهد متواصل، ولا يمكن وضع حلول مباشرة وبسيطة لمعالجتها، وهي جوانب لا يمكن إغفالها لأن مقاومة التغيير لا تتلاشى من تلقاء نفسها، ومعالجة المقاومة في بعض الأحيان هي بالضبط ما تحتاجه المؤسسة لعبور المرحلة الانتقالية.

وإذا تأملنا المرحلتين الثانية والثالثة من منهجية التسعين يومًا نجدها تركز على الجوانب المترتبة على مرحلة الإسفنجة، التي تتضمن بناء رأس المال الاجتماعي، ووضع الخطط الاستراتيجية القائمة على خرائط القيمة، وبناء رأس المال البشري من الكفاءات الفنية والإدارية، لذلك فإن مرحلة الإسفنجة هي الأساس في ضمان نجاح المراحل الأخرى، وهناك الكثير من القيم الذي يجب ترسيخها قبل انقضاء الثلاثين يومًا الأولى، وعلى رأسها تأتي الثقة، فهي وإن كانت غير ملموسة، ولا يمكن قياسها بشكل رقمي، إلا أنها تمثل العمود الفقري لنجاح القيادة الإدارية سواءً كانت على نطاق فريق عمل مكون من عدة أشخاص، أو مؤسسها ينتسب إليها آلاف الموظفين، ولا بد من التأكيد هنا بأنه قد يكون القائد ناجحًا لأنه يحسّن اتخاذ القرارات المصيرية، ولكن ليس كل قائد ناجح هو قائد ملهم، وفي المقابل فإن جميع القادة الملهمين هم قادة ناجحون وجديرون بالثقة، ولديهم الرؤية الواضحة للمستقبل، ويسعون بكل جدية من أجل التطوير المستمر للواقع الراهن وصولًا لتحقيق الرؤية التي يحلمون بها، ويدركون حتمية العمل بمنهج تشاركي يعتمد على تعريف الإمكانات غير المستغلة في فرق العمل، ويدركون أن دورهم القيادي ليس درجة وظيفية تضاف إلى رصيدهم المهني، وإنما هو بمثابة رحلة تعلُّم مشتركة، ففي الطريق إلى تحقيق الرؤية يتعلم الفريق أو المؤسسة مهارات صناعة المستقبل، التي تمثل الإرث الحقيقي للقائد، ويمكن أن تقودهم إلى أشياء أكبر وأفضل أثناء وجوده أو في غيابه.

وهذا يقودنا للنقطة التالية؛ فهل يدرك القادة ماهية رحلة الإلهام؟ إذا كانت الثلاثون يومًا الأولى هي المرحلة الحاسمة في تشكيل تاريخ القائد وتأثيره لما بعد فترة وجوده فإنه من الأهمية بمكان استعراض أهم محاور العمل الاستراتيجي التي تضمن نجاح مرحلة الإسفنجة وتهيئة رحلة الإلهام، فنجد في العمق أهمية مهارة الحضور الهادئ للقائد الذي يعمّق الثقة في الفريق الذي يقوده، إن من أكثر الهفوات التي يقع فيها القادة المستجدون هي محاولة تقمص دور القائد «المشغول دائمًا»، وكذلك تصنع الاستعجال في كل الموضوعات، وفق سيناريو غرف الطوارئ، أو مركز الاتصال في الدفاع المدني، فإدارة العواطف من أهم المهارات المميزة للقائد الملهم؛ لأنها توحي للفريق بأنه مهما اشتدت الصعوبات فإن الموقف لا يزال تحت السيطرة، وهذه الرسالة أعمق بكثير من الصورة النمطية المستهلكة للقائد المتفاني الذي يهب وقته بالكامل لعمله، هذا التوجه مبالغ فيه، والقائد الملهم هو ذلك الشخص المتوازن الذي يحقق النجاح المهني دون أن يضحي بنمط الحياة الصحية والمتوازنة، وليس من المتوقع أن يسعى القائد لأن يؤثر بسلوكه على العالم كله ليكون ملهمًا، نقل الشغف وتعليم الآخرين بالقدوة ليس سهلًا كما يبدو، قد يبدأ الأمر بالتأثير على عضو واحد في الفريق ثم انضمام الآخرين ومشاركة الاهتمام، عبر التواصل الجيد، ومواصلة بناء الثقة كمهمة عمل يومية، وتوجيه الموارد نحو القضايا الأكثر إلحاحًا في عالم الوظائف المعاصر، مثل ظاهرة الانسحاب الهادئ، ومحور التشبث بمنطقة الراحة وتحديات إخراج الموظفين منها بالتحفيز وإذكاء روح الطموح المهني والرغبة في التطور، فإذا تمكن القائد من جدولة أولويات الثلاثين يومًا الأولى حول هذه المجالات فإنه بلا شك سيربح ثقة فريقه، وسيبدو ملهمًا للحد الذي لن يحتاج لأن ينفذ الخطوات اللاحقة بنفسه، سيقوم الفريق بمواصلة رؤيته وترجمتها إلى واقع ملموس، ولأن البشر يبحثون دائمًا عن القائد الملهم؛ يكفي أن تكون قائدًا عقلانيًّا، لتكون ملهمًا حقًّا؛ فالتفاصيل اليومية البسيطة هي التي تصنع الفرق.