لبنان الرقيق .. وضرورة النجاة من حقل الألغام !

02 أغسطس 2021
02 أغسطس 2021

د. عبد الحميد الموافي -

مما لا شك فيه أن لبنان، ومنذ استقلاله عن فرنسا عام 1943، حظي بوضع خاص على الصعيد العربي، ليس فقط بحكم طبيعته والسمات الحضارية للأشقاء اللبنانيين وحرص اللبنانيين على عدم الانخراط أو التورط على أي نحو في صراعات ومنافسات السياسة العربية وتقاطعاتها المؤذية ، حتى وإن دفع ثمنا لذلك في أحيان كثيرة، ولكن أيضا؛ لأن معظم الأطراف العربية الفاعلة، المجاورة للبنان والقريبة منه، كانت تحرص على الحفاظ على الدولة والمجتمع اللبناني والحيلولة قدر الإمكان دون وقوع لبنان في دائرة المعاناة أو الأزمة الشديدة ، حفاظا على مصالحها - تلك الأطراف - وعلى مصالح لبنان أيضا، والإبقاء عليه ساحة مفتوحة وديناميكية يمكنها استضافة كل ألوان الطيف السياسي العربي والتعايش معها بشكل أو بآخر.

وإذا كانت الأحداث والتطورات العربية قد أثبتت أن لبنان يتأثر بشدة، عندما يفقد بعض أو الكثير من سماته السياسية والاجتماعية المميزة، بغض النظر عن الأسباب التي تكون عادة مفروضة عليه كدولة وكمجتمع ، وهو ما حدث على سبيل المثال في أواخر خمسينيات القرن الماضي ، وفي الحرب الأهلية اللبنانية ( 1975 - 1989 ) وفي خروج القوات الفلسطينية منه عام 1982 وخروج القوات السورية منه عام 2005 ، وفي الاجتياحات الإسرائيلية المختلفة للبنان ، وفي الحروب الإسرائيلية عليه وآخرها حرب 2006 ، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن لبنان يمر الآن بحالة استثنائية تتكالب فيها العديد من الأطراف ، المحلية والإقليمية والدولية ، ومن منطلقات ومصالح متفاوتة ، بل ومتقاطعة في أحيان كثيرة ، وهو ما يجسده الوضع الراهن في لبنان الشقيق ، بكل تداعياته ومخاطره التي حذر منها نجيب ميقاتي رئيس وزراء لبنان المكلف ، وسعد الحريري الذي اعتذر عن عدم إمكانيته تشكيل الحكومة اللبنانية ، بعد نحو تسعة أشهر من محاولاته واتصالاته ومفاوضاته المعقدة ، وغيرهما من السياسيين اللبنانيين وفي مقدمتهم الرئيس اللبناني العماد ميشيل عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وغيرهم .

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي : أولا : أنه على امتداد العقود الماضية راجت مقولتان ذات دلالة بالنسبة للبنان الشقيق ، الأولى هي إنه من بيروت يمكن أن ترى الساحة السياسية العربية بكل تلاوينها وتفاعلاتها ، ومنها أيضا يمكن أن تستشعر اتجاهاتها وتقاطعاتها واحتمالاتها إلى حد بعيد ، ويعود ذلك إلى الطبيعة اللبنانية وما اتسمت به من مرونة سياسية وقدرة على احتضان الجميع دون الذوبان في أي منهم . ولذا كانت بيروت بمثابة فسيفساء السياسة العربية، خاصة وان كل القوى السياسية العربية حرصت على أن تكون موجودة فيها والعمل منها أيضا ، إعلاميا وسياسيا كذلك .

وبالرغم من التغيرات الكثيرة التي شهدتها بيروت ، إلا أنها تظل حتى الآن مرآة للسياسة وللأوضاع العربية بوجه خاص والإقليمية بوجه عام . وليس من المبالغة القول بأن الأزمة التي يعيشها لبنان الشقيق في هذه الفترة، إنما تعبر - في جانب منها على الأقل - عن الأزمة الكبيرة التي تعاني منها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة ، والتي عبرت عنها صحيفة « نيويورك تايمز « في العدد الخاص الذي كرسته للأوضاع العربية قبل أيام والذي أشار إلى بعض ملامح المأساة العربية الراهنة وفوضى الاقتتال وإهراق الدم العربي بأيد عربية في أكثر من بقعة من الأرض العربية .

أما المقولة الثانية ، فهي التي تقول أن « قوة لبنان في ضعفه « ، فمن المعروف أن لبنان وهو إحدى الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية عام 1945 حرص دوما على الحفاظ على استقلاليته السياسية ، وعلى بناء أفضل العلاقات الممكنة مع سوريا ومصر ودول الخليج العربية، دون الانخراط في محاور أو تحالفات لا يحبذها ولا يسعى إليها، إدراكا منه أن ذلك لا يخدم مصالحه كدولة وكمجتمع في النهاية. خاصة وان الدول العربية دأبت باستمرار على الحفاظ على لبنان وعلى طبيعته المميزة، وتجنب جره أو الزج به في منافسات السياسة العربية ، حتى وإن جرت بعض تلك المنافسات أو بدت مظاهرها على أرضه أحيانا. ومن ثم فإنه يمكن القول أن الأزمة اللبنانية تعبر على نحو أو آخر عن الأزمة العربية الأوسع والتي تتجسد مظاهرها في مختلف أرجاء المنطقة وبأشكال عديدة ، سواء اعترفنا بذلك أو لم نعترف ، ولكن العالم من حولنا يدرك ذلك وتسعى الأطراف الإقليمية إلى الاستفادة منه على حساب المصالح العربية بالطبع .

ثانيا : أنه مع الوضع في الاعتبار أن النظام السياسي اللبناني يقوم على أساس الطائفية ، ووفق عناصر وتفاصيل محددة أرساها ميثاق عام 1943 ، الذي استقل لبنان على أساسه ، فإن الجدل الذي ظهر، ويظهر أحيانا ولأسباب ودوافع محددة ، سياسية واجتماعية ، حول النظام الطائفي ومشكلاته وسلبياته، لم تستطع حتى الآن على الأقل تجاوز هذا النظام أو القفز عليه . صحيح أنه كانت هناك محاولات محددة في هذا المجال ، بما في ذلك الدعوة لإعادة النظر في الأوزان السياسية للطوائف اللبنانية بمبرر الزيادة في عدد المنتمين إلى بعضها ، وتجاوز إطار ميثاق 1943 ، وهو ما ترتب عليه -على الأقل- في جانب منه ظهور مبدأ الثلث المعطل في الحكومة اللبنانية في السنوات الأخيرة ، وما ترتب ويترتب على ذلك من نتائج معروفة، ولكن الصحيح والبالغ الدلالة أيضا أن الطوائف والقوى السياسية اللبنانية امتلكت، ولا تزال تمتلك الرغبة والقدرة على التعايش مع بعضها البعض في سلام على الأرض اللبنانية، وهي تدرك جميعها -بدرجة أو بأخرى- أن مصالحها الطائفية والمجتمعية تكمن في الحفاظ على تعايشها السلمي معا، وأن سنوات الحرب الأهلية اللبنانية أثبتت بوضوح أنه لا مناص من التعايش معا وفي إطار المجتمع اللبناني الواحد. وليس من المبالغة في شيء القول بأن خروج لبنان من أزماته ، وسيره نحو تجاوزها يرتبط ، بل ويتوقف بدرجة كبيرة على الحفاظ على مبدأ التعايش بين الطوائف والقوى اللبنانية ، وعلى قدرتها أيضا على تجاوز التحريض الإقليمي، المباشر أو غير المباشر لبعضها، للتلويح بالقوة أو لمحاولة فرض خيارات لا تروق لمكونات المجتمع اللبناني الأخرى .

وإذا كانت المناقشات والجدل حول قانون الانتخابات وحول التعداد السكاني، وحول الثلث المعطل وحول الوزارات التي يرى هذا الطرف أو ذاك الحصول عليها أو التمسك بها، تعبر على نحو أو آخر عما يعتمل في المجتمع اللبناني من تيارات وتوجهات، إلا أن المراهنة تظل دوما على قدرة النخبة السياسية اللبنانية، بكل مكوناتها، على الحفاظ على مبدأ التعايش فيما بينها، وعلى تعاونها المخلص لصالح المجتمع والدولة اللبنانية وعدم الانجرار إلى دعوات الاستقطاب الحاد التي يخسر بسببها اللبنانيون أنفسهم بالدرجة الأولى .

وفي ضوء ذلك كانت إشارة رؤساء الوزارة اللبنانيين في اجتماعهم الذي توافقوا فيه على اختيار نجيب ميقاتي ليتولى تشكيل الحكومة اللبنانية بعد اعتذار سعد الحريري، بالغة الأهمية؛ لأنها دعت إلى البعد عن « البدع السياسية « وربما كان بعضها مسؤولا عن الخلافات التي جرت بين الرئيس اللبناني ميشيل عون ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري وحالت دون قدرته على تشكيل الحكومة الجديدة رغم تسعة أشهر قضاها في المشاورات مع مختلف الأطراف.

على أية حال فإنه من المؤكد أن التمسك بمبدأ التعايش وتطبيقه بشفافية وبحرص على مصالح الدولة والمجتمع اللبناني في الحاضر والمستقبل ، يظل ركنا أساسيا لتجاوز المشكلات الراهنة، وتلك التي تراكمت خلال الأشهر والسنوات الأخيرة. ولعل ما يدعو للأمل هو أن رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي أشار إلى أن هناك توافقا بينه وبين الرئيس عون حول معظم الجوانب المتعلقة بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وأن تكون حكومة تكنوقراط تركز على العمل لحل الأزمة الاقتصادية اللبنانية بالدرجة الأولى وفي إطار المبادرة الفرنسية المعروفة .

جدير بالذكر انه بالرغم من أن هناك مشكلات وتراكمات عديدة ظهرت بفعل التطورات اللبنانية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، انهيار الليرة اللبنانية والارتفاع الحاد للتضخم، وتآكل الاحتياطي النقدي للبنك المركزي اللبناني، ومشكلة المتورطين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وكذلك حلول الذكرى الأولى لانفجار ميناء بيروت التي تحل غدا الرابع من أغسطس، وعدم إحراز تقدم في التحقيقات الخاصة بالحادث، ومشكلات إعادة بناء ميناء بيروت وإعادة إعمار المناطق التي تضررت من الانفجار، إلا أن القوى السياسية اللبنانية يمكنها بالفعل، إذا أرادت، أن تنهض وأن تضع لبنان على مسار التعافي السياسي والاقتصادي مرة أخرى، بتعاونها ودعم الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية المحبة للبنان والحريصة على نهوضه وازدهاره مرة أخرى، وهذا أمر ممكن ويلوح في الأفق . أما حسابات المتربصين بلبنان، أو الذين يريدون استغلاله لخدمة أغراضهم أو مخططاتهم، وفي مقدمتهم إسرائيل، فإن التعاون والتماسك الداخلي اللبناني والتقاء الطوائف والنخب السياسية يمكن أن يفوت الفرصة عليهم أو على الأقل يعرقل مخططاتهم وعلى نحو يسمح للبنان باستعادة قدرته على النهوض مرة أخرى .

ثالثا : أنه بالنظر للأهمية التي يمثلها لبنان، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، فإن أطرافا إقليمية ودولية عديدة سعت وتسعى من أجل خدمة مصالحها في لبنان، واستغلال الأوضاع التي يمر بها لخدمة مصالحها في المقام الأول . ونتيجة لذلك تعرض لبنان ويتعرض للكثير من الضغوط المباشرة وغير المباشرة، ومنها على سبيل المثال العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي الجمعة الماضية، وهي العقوبات التي رحبت بها واشنطن « لوضع حد للفساد المستشري وتقاعس الحكومة عن العمل وتشكيل حكومة يمكنها الشروع في الإصلاحات الحاسمة لمعالجة الوضع المتردي في البلاد « وذلك وفق بيان وزارتي الخزانة والخارجية الأمريكيتين يوم 30 يوليو الماضي .

وإذا كانت فرنسا وأطراف دولية وحتى إقليمية أخرى قد دعت إلى خطوات إصلاحية في لبنان، وإلى ممارسة ضغوط على الطبقة السياسية اللبنانية للتحرك في هذا الاتجاه، فإن المشكلة هي أن لبنان يواجه ما يمكن تسميته نوعا من الحصار فمختلف القوى الإقليمية والدولية أوقفت مساعداتها للدولة اللبنانية، باستثناءات محددة وذات بعد إنساني وصحي، ومن ثم تتفاقم مشكلات لبنان عمليا اقتصاديا واجتماعيا وبالطبع سياسيا، وعندما تتشكل الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي فإنه وعد بأنه سيعمل على محاصرة التدهور الاقتصادي خلال المائة يوم الأولى بدعم ومساعدة الأطراف التي يمكنها المساعدة في ذلك . وبين توقف عن سداد إصدارات « اليورو بوندز « وعدم دفع المستحقات، والحاجة إلى مساعدات عاجلة من صندوق النقد الدولي والدول المانحة، وما يمكن أن يقرره مؤتمر المانحين الذي تنظمه فرنسا من ناحية، و كذلك ما يمكن أن يقوم به حزب الله على صعيد تعزيز ترسانته العسكرية وما يمكن أن تقوم به إسرائيل التي تستشعر زيادة خطورته بالنسبة لها من ناحية أخرى؛ فإنه من المهم والضروري أن تتقدم الدول العربية القادرة على مساعدة لبنان بما يمكن أن يساعده للخروج من الوضع المتدهور الذي وصل إليه؛ لأن نهوض لبنان يصب في النهاية في مصلحته ومصلحة المنطقة من حوله، أما المنتظرون انهياره فإن انتظارهم سيطول؛ لأن اللبنانيين قادرون على التعايش والحياة معا، ولأن الأطراف الدولية الفاعلة ترى في نهوض لبنان وتجاوزه محنته مصلحة لاستقرار وأمن المنطقة اليوم وغدا . وعلى ذلك فإنه من الضروري أن يخرج لبنان من حقل الألغام العالق فيه، سالما وبأقل الخسائر وبأسرع ما يمكن.