لا حل إلا محادثات سلام بمشاركة حماس

03 يناير 2024
ترجمة: أحمد شافعي
03 يناير 2024

بعد ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر وانتقام بنيامين نتانياهو المروع في غزة، لا بد من ذكر بعض الحقائق بعد طول صمت. أولًا، إسرائيل لن تقوم بـ«تدمير حماس» -مصداقا لوعد زعمائها- ولا حتى من خلال تدمير غزة.

بالرغم من أن إسرائيل تضر بحماس عسكريا، ولعله ضرر كبير، بالقضاء على كثير من أنفاقها وفرار مقاتليها، فحماس حركة وأيديولوجية ساعد تطرف نتانياهو -من أوجه كثيرة- في ترويجها.

لقد أحبطت حكومات إسرائيلية يمينية مفاوضات جادة مع الحزب الفلسطيني الأكثر «اعتدالا»، أي حركة فتح التابعة للراحل ياسر عرفات، وذلك منذ قمة كامب ديفيد سنة 2000، أي قبل أكثر من عشرين سنة. ودأبوا على قمع سكان غزة، وفرض حالة حصار شبه مستمرة عليهم. فهل من المفاجئ حقا أن كثيرا من الفلسطينيين تحولوا في يأس إلى البديل المتطرف المتمثل في حماس؟

لا بد أن يكون الدرس الذي يستخلص من كل الصراعات الحديثة هو أن عجز الأقوياء عن رفع الظلم والتفاوض وصولا إلى حل هو الذي يذكي التطرف. ومثلما يتبين من تاريخ بريطانيا السافر في أيرلندا الشمالية، حينما تفشل السياسة، يملأ العنف الفراغ.

لقد ظلت الحكومات البريطانية على مدار عقود ترفض التفاوض رسميا مع الجيش الشعبي الأيرلندي بسبب أعماله الإرهابية. ثم لما تفاوضوا أخيرا، نتج عن هذا اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998. وبرغم مرارة الدواء الأليمة التي أعجزت الوحدويين عن تجرعه، فقد لقي الاتفاق دعما من رئيس الولايات المتحدة، ورئيس وزراء المملكة المتحدة، ورئيس الاتحاد الأوروبي، لكن خلفاءهم جميعا نسوا في ما يبدو الدرس المستفاد.

فيما يتعلق بالفكرة التي يروج لها زعماء شمال العالم وهي أن المفاوضات الوحيدة المقبولة هي التي تجري مع السلطة الفلسطينية فاقدة المصداقية في الضفة الغربية، فذلك أيضا لن ينجح. وحكومات شمال العالم لديها تاريخ طويل من المحاولة والفشل في تعزيز «المفضلين» لدى الشعوب المطالبة بحق تقرير المصير ليكونوا ممثلين لهم. ولا بد من احتواء حماس بطريقة أو بأخرى.

ففي النهاية، لا بد أن يكون الحل سياسيا. والفلسطينيون من أي طيف سياسي لا يمكن أن يلحقوا الهزيمة بإسرائيل عسكريا، ولكن إسرائيل أيضا لا يمكن أن تلحق بالفلسطينيين الهزيمة عسكريا. ومثلما كتب جوناثان باول -رئيس الأركان السابق في عهد توني بلير- في كتابه «الحديث إلى الإرهابيين»، لا يمكن لمثل هذه الصراعات أن تحل إلا بالتفاوض. وبرغم مواقفهم المعلنة، فقد انخرط نتانياهو وجو بايدن وريشي سوناك مع حماس في التفاوض على الرهائن وإطلاق سراح الأسرى، وإن تم أغلب ذلك من خلال قطر.

غير أن قادة إسرائيل اليمينيين رفضوا التفاوض، وبدلا منه انهمكوا في تحويل الفلسطينيين إلى أتباع محتلين. فالضفة الغربية، التي لا تدير «فتح» منها غير جزر صغيرة فيها (لكنها عمليا خاضعة لسيطرة إسرائيل) تحتوي حاليا قرابة نصف مليون مستوطن، والقدس الشرقية فيها قرابة ربع مليون مستوطن إسرائيلي. وقادة الشمال العالمي اليوم يفركون أيديهم قلقا، ويشيرون إلى أن هذه المستوطنات غير قانونية، لكنهم لا يفعلون حيالها شيئا، ويتسامحون مع المزيد من المستوطنين، وكذلك مع الحصار الطويل، وحاليا يتسامحون مع التدمير شبه الكامل لغزة.

فما الذي جنته إسرائيل من ذلك كله؟ لا مزيد من الأمن بل العكس، وذلك ما لعل «مذبحة» السابع من أكتوبر قد أظهرته. لقد فشل حكام إسرائيل اليمينيون فشلا ذريعا في حماية مواطنيهم، وبما يمارسونه من أهوال عديمة الرحمة في غزة، فإنهم يعرضون حياتهم لمزيد من الخطر.

لقد أصاب مستشار حكومة حزب العمل الإسرائيلية السابق دانيال ليفي حين قال أخيرا في حوار تليفزيوني: إن «الإسرائيليين لا يمكن أن ينعموا بالأمن ما لم ينعم الفلسطينيون بالأمن. والمعادلة التي يمكنكم من خلالها فرض نظام أصيل العنف على شعب آخر، وتنكرون على شعب آخر حقوقه الأساسية، وتعيشون منعمين بأمنكم، هي معادلة غير ناجحة أبدا... لأنكم حينما تقهرون شعبا، تعلمون في قرارة أنفسكم أنكم تولِّدون فيه رغبة الانتقام، فلا يكون بوسعكم أن تناموا آمنين بليل».

بالطبع، قد تتلخص الأجندة الحقيقية للحكومة الإسرائيلية الحالية بدفع الفلسطينيين من الأراضي إلى الأردن ومصر. والرفض القاطع الأخير لحل الدولتين من سفير نتانياهو لدى المملكة المتحدة ما هو إلا تكرار لما سبق أن قاله هو وآخرون في الحكومة: لا لحل الدولتين، وإنما هيمنة إسرائيلية دائمة، وتصعيد للعنف والاضطراب في المنطقة.

من المؤكد أن الهدف يجب أن يظل هو الأمن لإسرائيل وحق تقرير المصير للفلسطينيين. ولو أن حل الدولتين لم يعد قابلا للتطبيق، فماذا عن شكل ما من دولة كنفدرالية؟ دولة يكون للفلسطينيين فيها حكم ذاتي ولإسرائيل أن تنعم بالأمن؟

بدلا من أن يتواطأ الرؤساء ورؤساء الوزراء في العواصم واشنطن، ولندن، وأوروبا على الفشل الذريع، يجب أن يدعموا قمة إقليمية تضم إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية، ونعم، إيران أيضا، مع الأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة. فلن يتحقق استقرار كامل للمنطقة ما لم يجر احتواء جميع الأطراف.

منذ رئاسة باراك أوباما لم يكن من دور للدبلوماسية الجادة والاشتراك الحقيقي. ومثلما كتب جون كيري مبعوث أوباما في سيرته الذاتية: «في السياسة الخارجية نادرا ما يتوافر تركيز كاف على مخاطر التقاعس عن العمل. ويصدق هذا بصفة خاصة على السلام في الشرق الأوسط».

إنني أكتب هذه السطور من كيب تاون حيث يشعر أبناء جنوب إفريقيا بمختلف أعراقهم وعقائدهم بازدراء تام لما يرونه ازدواجا عميقا في المعايير لدى قادة شمال العالم، إذ يرغبون في دعم حق تقرير المصير لأوكرانيا، لكنهم متواطئون في إنكار ذلك نفسه على الفلسطينيين ويتحملون مسؤولية أهوال غزة. إن الانقسام السياسي مع الجنوب العالمي يتعمق، وسوف يكلف واشنطن ولندن وبروكسل الكثير، وسوف تزداد التكلفة بازدياد اضطراب العالم.

في الوقت نفسه، فإنني أبقى صديقا لإسرائيليين وفلسطينيين. فلا أبيع بهذا أيا منهم، وإنما هو إدراك مني لأن لهم مستقبلا مشتركا، أو لأنهم يواجهون انعدام المستقبل، وعليهم أن يوجدوه.