لأسباب غير سياسية فقط يبدو السلام بعيد المنال
نادرا ما كان السعي إلى السلام في النزاعات الكبرى يائسا وعبثيا إلى الحد الذي نراه عليه الآن. ففي غزة، عادة ما نرى أن الحديث عن وقف إطلاق النار والهدنات والتوقفات المؤقتة ينتهي بالدموع. وفي أوكرانيا، دخلت الحرب الآن عامها الرابع دونما نهاية تلوح في الأفق، برغم موعد ترامب النهائي الجديد المحدد بخمسين يوما. وسوريا تحترق من جديد. وأهوال السودان لا تتوقف على الإطلاق. وفي العام الماضي، بلغت النزاعات بين الدول ذروتها - بواحد وستين نزاعا في أكثر من ست وثلاثين دولة. فذلك كان أعلى إجمالي مسجل منذ عام 1946. وقد يكون العام الحالي أسوأ حالا.
ويصل حجم جرائم الحرب وغيرها من الفظائع في مناطق النزاع ووحشيتها إلى مستوى استثنائي. وأصبح الاستهداف العمدي غير القانوني للمدنيين وإرهابهم، وقتل الأطفال وتشويههم واختطافهم، واستخدام التجويع والعنف الجنسي والتعذيب والتهجير القسري كأسلحة حرب، أمرا شبه روتيني. فقد كان قتل إسرائيل للأطفال المصطفين للحصول على الماء في غزة الأسبوع الماضي صادما، وازداد وقع الصدمة بحقيقة أن مثل هذه المشاهد باتت شائعة للغاية.
لقد قال القديس متى: «طوبى لصناع السلام»، لكن الوسطاء المحايدين باتوا اليوم شديدي الندرة. ومن المؤكد أن الجميع يتفقون على أن قتل الأبرياء وذبحهم أمران لا يمكن الدفاع عنهما أخلاقيا. فلاذا إذن يتاح لهما الاستمرار؟ هذا سؤال يصرخ به الآباء المفجوعون في رفح وكييف ودارفور، وعمال الإغاثة التابعون للأمم المتحدة، وفي المنابر والحانات والبرلمانات، وفي مظاهرات الشوارع وفي جلاستونبري. لماذا؟ لماذا؟
لنا في لعنة النسبية الأخلاقية مفتاح للإجابة. فالحقيقة هي أن الجميع ليسوا متفقين. فما لا يمكن إطلاقا الدفاع عنه أخلاقيا بالنسبة لمجموعة من الناس قد يكون مقبولا أو مبررا نسبيا لدى مجموعة أخرى منهم. وقد صدق هذا على مدار التاريخ البشري. غير أن عالم اليوم المنقسم جيوسياسيا واقتصاديا عالم ممزق أخلاقيا ومعنويا بدرجة قد لا يكون لها مثيل. والمعايير المتفق عليها والمعمول بها ـ أو ما يسميه الكاتب الأمريكي ديفيد بروكس بـ «النظام الأخلاقي الدائم» ـ غائبة.
وينعكس انهيار النظام الدولي القائم على القواعد في أزمة النظام الأخلاقي هذه. فدونما مبادئ مطلقة القبول، تصبح تسوية النزاعات سلميا، سواء أكانت هذه النزاعات خارجية أم داخلية، أمرا بالغ الإشكالية. ويذهب بروكس إلى أنه «ليس لدينا معيار موضوعي لتحديد صحة رأي أو خطأ آخر. ولذلك، تستمر الجدالات العامة إلى ما لا نهاية، بمستويات أعلى من السخط والاستقطاب». فلا يبقى غير الإكراه والخداع.
وما من أحد أكثر تجسيدا للارتباك النسبي الأخلاقي الذي يسود الحياة المعاصرة من ترامب، سيد الإكراه والخداع. فهو يعتقد، على سبيل المثال، أنه يستحق الحصول على جائزة نوبل للسلام لعام 2025. غير أن ترامب تواطأ مع إسرائيل وقصف إيران أخيرا، وقتل العديد من المدنيين. ومن وجهة نظره المضطربة أخلاقيا، كان هذا العمل العدواني غير القانوني مبررا لأنه أعاد السلام الذي انتهكه هو نفسه.
وفي عالم تعتريه الحروب، تبدو جائزة ألفريد نوبل العريقة للسلام عتيقة الطراز، بل ومسيسة بشكل متزايد. فقد فاز بها باراك أوباما عام 2009 لعدم قيامه بأي شيء. فليت ترامب لا يفعل شيئا هو الآخر خلال السنوات الأربع القادمة. والأدهى من ذلك أنه تم ترشيحه من قبل بنيامين نتنياهو، عدو السلام والأخلاق اللدود. وقد يكون من الأفضل استبدال جائزة «أمير حرب العام» بجائزة السلام، وتعيين مكافأة مالية لمن يقتل الفائز.
وقد يكون الدفاع عن السلام أخلاقيا أمرا مربكا، بل مثيرا للجدل، واسألوا أي واعظ في مسجد أو كنيسة. فالأخلاق، بالنسبة للكثيرين في ما يبدو، كلمة ملوثة في هذه الأيام. وهي قابلة للاستبدال والتفاوض، خاضعة للتأثيرات العاطفية، وهي في المقام الأول مسألة اختيار فردي وانتماء ثقافي، وليست مسألة واجب أو التزام أو إخلاص لقانون أعلى. وإلا فكيف نفسر قيام هذا العدد الكبير من الأمريكيين بغض الطرف عن وضاعة ترامب الأخلاقية الصارخة، التي تتجلى مجددا في قضية جيفري إبستين؟ إذ تتغلب الهوية الاجتماعية على الضمير الاجتماعي.
وبالمثل، يعاني قطاع كبير من الشعب الروسي من خلل أخلاقي مزمن عند التفكير في تدمير فلاديمير بوتين لأوكرانيا. إذ يتجنب المعارضون الموضوع في رعب. ويصدق آخرون خرافات التضليل التي تروجها وسائل النظام الإعلامية. وتعيش الأغلبية في حالة من الجهل العميق بالجرائم التي ارتكبت باسمهم. فعندما ينتهي الأمر، قد يزعم الروس، مثلما زعم الألمان من قبل عام 1945، أنهم لم يكونوا يعلمون. والكذب يخفف من وطأة انعدام الأخلاق.
ولإنكار إسرائيل للسلام في فلسطين ثمنه الأخلاقي الباهظ أيضا. فقد تلوثت سمعتها، وصدر أمر قضائي باعتقال رئيس وزرائها المتهم بجرائم حرب. ومعاداة السامية تتفاقم دوليا من جراء ذلك. فكيف لهذا العدد الكبير من الإسرائيليين أن يتعايشوا مع هجمة جيشهم الشرسة في غزة، ومع شبح ثمانية وخمسين ألف جثة؟ يقول البعض إن كل هذا سيتوقف بإطلاق سراح آخر الرهائن، بينما يقول آخرون إن جميع الفلسطينيين منتمون إلى حماس. والبعض في اليمين المتطرف، يتناسون تاريخ بلدهم، ويشيرون إلى أن فكرة الدولة الفلسطينية محض وهم. ويريدون حبس مليوني نسمة من سكان غزة جميعا في معسكر اعتقال ضخم.
ويعترض كثير من الإسرائيليين على هذا بشدة. ويرغبون في السلام. وعجزهم عن فرض التغيير في سياسة الحكومة عجز أخلاقي بقدر ما هو عجز سياسي. والمسئولية تقع أيضا على عاتق الأمريكيين والروس وكل من في بريطانيا وأوروبا، من السياسيين والعامة، ممن يعجزون عن الجهر، ويغضون طرفهم، ويبررون ما لا يبرر لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة أو المصلحة الشخصية، وممن يزعمون أن القتل والفوضى، أينما وقعا، هما أمران مقبولان نسبيا من وجهة النظر الأخلاقية إذا ما تم ارتكابهما، كما رأى القديس توما الأكويني، في سياق «حرب عادلة».
هذا العجز الحديث، وهذا النكوص إلى أخلاقيات ذاتية معدلة شخصيا، وهذا التخلي عن المسؤولية المشتركة، أمر يمكن التراجع عنه. فلا تزال المعايير الأخلاقية المطلقة سارية. وتحددها اتفاقيات جنيف، وغيرها من صكوك القانون الدولي العلمانية، ويحددها الإيمان الديني، والعقد الاجتماعي. ويجب احترامها وتعزيزها. وهي حقائق ضرورية، وإن تكن أحيانا غير مريحة.
قد يختار الناس العاديون في الأوقات العادية معاركهم الأخلاقية. لكن إنهاء الصراعات الكبرى، وتخفيف معاناة الملايين، واجب أخلاقي يتطلب استجابة جماعية حازمة من جميع الأطراف المعنية. وفي هذا يكمن السلام. ويكمن الخلاص.
