كيف يهدد اليمين المتشدد الاقتصاد في أوروبا؟
08 سبتمبر 2025
08 سبتمبر 2025
الإيكونومست / ترجمة: قاسم مكي -
المُتمرِّدون الذين يريدون تحطيم النظام كثيرا ما ينتهي بهم المطاف إلى إدارته. بالنسبة لليمين المتشدد في أوروبا بدأ ذلك يتضح الآن؛ إنه يتقدم في الاستطلاعات أو هو قريب من ذلك في بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
في إيطاليا اليمينيون في سدة الحكم وفي هولندا قادوا ائتلافا لفترة وجيزة وفي بولندا في يونيو هزم مرشحهم الرئاسي مرشح الوسط. وبحلول عام 2027 قد يحكم اليمين المتشدد في بلدان تشكل اقتصاداتها نصف الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا.
ستكون تلك ضربة قاسية للازدهار الأوروبي. التهديد المباشر يتمثل في استخدام اليمين للسلطة. فاليمينيون يسخرون من الإدارة التكنوقراطية ويتعهدون بحماية الناخبين من المنافسة والتدمير الخلاَّق ويقدمون بدلا من ذلك مزيجا مغريا من الهبات والتخفيضات الضريبية. النجاح الانتخابي الناجز لليمين المتشدد يعني المزيد من الركود الاقتصادي بل حتى تكرار أزمات سوق السندات.
أما التهديد غير المباشر ففي حقيقة أن الأحزاب الرئيسية في بعض البلدان ترتعد وتجثو أمام الانتفاضة الشعبوية وتتهرَّب من تنفيذ الإصلاحات الصعبة وتتبنى سياسات المتطرفين. وهذا نمط من الحكم يخاطر بالتعجيل بانتصار اليمين المتشدد الذي تسعى هذه الأحزاب إلى تجنبه.
من الصعب القول إن اقتصاد أوروبا كان يُدار بشكل جيد في السنوات الأخيرة. فالناتج المحلي الإجمالي ينمو بنسبة 1% فقط. وعائد السند الحكومي البريطاني لأجل 30 عاما بلغ 5.7% يوم 2 سبتمبر وهذا أعلى معدل له خلال ربع قرن. وبعد إعلان فرانسوا بايرو رئيس وزراء فرنسا عن اعتزامه الدعوة إلى التصويت على الثقة في حكومته يوم 8 سبتمبر بلغ عائد سند فرنسا لمدة 30 عاما 4.46% وهو أعلى معدل منذ عام 2008. وألمانيا، المحرِّك الاقتصادي للقارة، بالكاد شهدت نموا منذ عام 2019.
قد تعتقد أن مثل هذا الأداء البائس يؤيد دعوى اليمين المتشدد بحاجة أوروبا إلى مقاربة جديدة. حقا إنه يفعل ذلك. ولكن ليس التغيير الذي يقترحه اليمين. في الحقيقة أوروبا لا يمكنها تحمل فترة إدارة اقتصادية أسوأ.
من المفيد تحديد مكامن الخطر. اتجهت أحزاب اليمين المتشدد الآن إلى الاعتدال مع اقترابها من الحكم. فأفكارها السابقة بالتخلي عن اليورو والخروج من الاتحاد الأوروبي أصبحت الآن في الغالب رمزية على الرغم من أن حزب «البديل لألمانيا» لازال يفكر في خروج ألمانيا من الاتحاد (الديكسيت.)
وبعد إدراكها إلى أي حد بدأت أوروبا تشيخ، بدأت هذه الأحزاب الآن في الدفاع عن خطط استضافة عمال أجانب لتوفير عمالة جديدة بدلا عن إغلاق الحدود تماما أمامهم. فهي فوق كل شيء، تريد تجنب ذلك النوع من الاضطراب الاقتصادي الذي يخيف الناخبين.
لكن هذه المقاومة للتغيير تجعلهم «يخنقون» النمو. في إيطاليا بدت جورجيا ميلوني معتدلة نسبيا بما في ذلك تجاه أوروبا، لكنها تجنبت الإصلاحات المعززة للنمو التي من شأنها مضايقة الناخبين. وفي أمريكا يوجد جناح في حركة ماغا مناصر للتقنية والتخلي عن القيود الحكومية ويسعى لجذب اهتمام الرئيس ضد «حنين» العديد من مؤيدي ترامب إلى ماض سعيد يتخيلونه.
في أوروبا، بالمقارنة، تتعلق الشعبوية كلها بالحفاظ على ماض متخيَّل. ونجاح اليمين المتشدد سيثبِّت سِمَات اقتصاد أوروبا الأقل إنتاجية كالتحويلات المالية لجماعات مفضلة والحمائية والعداء للمنافسة.
بل هنالك مشكلة أكبر وهي إسراف اليمين المتشدد في الإنفاق الحكومي. فكل الأحزاب الشعبوية تقريبا تدعو إلى مزيج من التخفيضات الضريبية والصرف السخي على المتقاعدين والآباء الذين يعيلون أطفالا لتعزيز معدل الولادات وسط السكان الأصليين. وتزعم أنها ستضبط الموازنة بتحقيق وفورات ضخمة من خفض الإنفاق على المهاجرين والطفيليين (الذين يعتاشون على برامج الرعاية الاجتماعية ولا يعملون) والهدر في القطاع العام وبروكسل (أجهزة الاتحاد الأوروبي). ويَعِد حزب «الإصلاح في المملكة المتحدة» بتقديم هبات بقيمة حوالي 200 بليون جنيه إسترليني (266 بليون دولار) أو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب تقديراتنا في الإيكونومست. ويتم تمويلها بوفورات غير معقولة تصل إلى 100 بليون جنيه إسترليني وتشمل خفضا غير محدد بنسبة 5% في كل أجهزة الحكومة. ويعتقد الحزب أن في مقدوره الحصول على 42 بليون جنيه بتقليل الهجرة و10 بليون جنيه إسترليني بتحسين إدارة معاشات (رواتب تقاعد) القطاع العام.
من المؤكد أن أسواق السندات ستزيل هذه الأوهام. في الواقع اقتران انخفاض النمو بسوء ضبط الموازنة يدفع دون هوادة نحو أزمة مالية حكومية. وفي أفضل الأحوال سيفرض هذا شيئا من التعقل. ففي إيطاليا، حيث لا تزال ذكريات أزمة اليورو حية والحكومة تعتمد على إقرار موازنتها على مستوى الاتحاد الأوروبي للحصول على الدعم من البنك المركزي الأوروبي، تدير رئيسة الوزراء ميلوني سياسة مالية متشددة.
لكن في حال اندلاع «أزمة يورو» ستضاعف الشعبوية الخطر. واليوم البنك المركزي الأوروبي يشكل فعليا ملاذ الإقراض الأخير للحكومات. والأسواق تثق ضمنا بتعهد ماريو دراغي الرئيس السابق للبنك بعمل «كل ما يلزم» للحفاظ على وحدة منطقة اليورو طالما أبدت الحكومات ما أسماه مسؤول سابق «معقولية سياسات الاقتصاد الكلي.» عندما حلت جائحة كوفيد-19 كانت لدى الكتلة الأوروبية وحدة كافية لوضع تدابير حماية للمالية العامة في شكل صندوق للتعافي.
هل سيظل ذلك صحيحا إذا تولت مارين لوبان (أو جوردان بارديلا) إدارة حكومة يشكلها حزب التجمع الوطني في فرنسا؟ في حالة وقوع أزمة في منطقة اليورو سيلزم الحكومات الوطنية التعاون فيما بينها والعمل مع البنك المركزي الأوروبي في اجتماعات قمة مطولة. وستعاقِب الأسواق بشدة أي تردد أو انقسام. على مدى عقود كانت الإجابة على كل أزمة هي «المزيد من الوحدة في أوروبا.» وقادت الأزمات الأخيرة الى إشراف موحَّد على البنوك وإصدار سندات مشتركة.
لكن سيكون من الصعب للأحزاب التي وعدت ناخبيها «بوحدة أوروبية أقل» قبول مثل هذه الحلول. هل يلزم المرء أن يكون (مثل البليونير الموفَّق في تنبؤاته) جورج سوروس لكي يتنبأ بأن مستثمري السندات سيختبرون تماسك منطقة اليورو إذا فاز حزب التجمع الوطني في الانتخابات الفرنسية؟
قد يبدو كل هذا مجرد افتراضات. لكنه يلقي بظلاله على الاقتصاد حتى اليوم لأن ساسة الأحزاب الرئيسية لا يرغبون أو غير قادرين على إجراء إصلاحات خوفا من تقوية خصومهم.
في العام الماضي كشف ماريو دراغي عن مجموعة كبيرة من التوصيات التي أُعِدَّت لتعزيز اقتصاد أوروبا بما في ذلك التكامل بين الأسواق المالية للقارة وطرائق عديدة لتقليل التعقيدات البيروقراطية. لكن لم يتم تنفيذ هذه المقترحات.
ساسة أوروبا في ورطة. التغيير سيقلل من شعبيتهم والتقشف سيلمِّع وعود اليمين المُغالَي فيها. لكن الحذر مهما كان مغريا سيؤبِّد العجز الذي يقود إلى تآكل ثقة الناخبين في السياسة.
