كيف يجب أن يتغير الاتحاد الأوروبي

24 مايو 2022
24 مايو 2022

برغم أننا ما زلنا لا نعلم متى ــ والأهم من ذلك كيف ــ قد تنتهي الحرب في أوكرانيا، فقد بات من الواضح بالفعل أن الصراع سيغير هيئة الاتحاد الأوروبي بشكل درامي.

نشأ الاتحاد الأوروبي كاستجابة للعنف المتفجر في الحربين العالميتين اللتين كانتا نتاجا للتحول إلى التصنيع وتغول النزعة القومية منذ القرن التاسع عشر فصاعدا. أدت هذه العمليات التاريخية إلى تدمير النظام الأوروبي التقليدي بشكل كامل. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت القارة الأوروبية خاضعة لسيطرة قوتين غير أوروبيتين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وبسبب استحالة التوفيق بين المصالح المادية والإيديولوجية لهاتين القوتين، فقد ترتب على ذلك سباق تسلح نووي وحرب باردة دامت عقودا من الزمن.

بعد الحرب العالمية الثانية، كان اقتصاد أوروبا الغربية في حالة يُـرثى لها وكانت عاجزة عسكريا ضد غزو سوفييتي محتمل. ولولا خطة مارشال الأمريكية وضمانات الحماية العسكرية التي قدمتها أمريكا، لما كانت أوروبا الغربية لتتمكن من البقاء. وقد كَـفَـل تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1949 بقاء القسم الغربي من القارة في مأمن من التعديات السوفييتية وألمانيا التي قد تعود إلى الظهور، وإن كانت مقسمة. ثم أفضى ذلك الترتيب إلى نشوء فكرة مفادها أن إقامة نظام أوروبي غربي مستقر أمر في حكم الممكن من خلال التكامل الاقتصادي في إطار سوق موحدة، ومؤسسات جمعية، ونظام قانوني مشترك ــ مما يعني ضمنا في النهاية التكامل التام بين الدول المشاركة.

لم يكن الهدف مقتصرا على التغلب على الأسباب الاقتصادية الاجتماعية والسياسية وراء القومية المدمرة، بل وأيضا ضمان جلب ألمانيا، الدولة المشاغبة تاريخيا وصاحبة الاقتصاد الأقوى في أوروبا، إلى الحظيرة الأوروبية بشكل كامل ودائم. في العقود التالية، أصبح الناتو الركيزة العسكرية، والاتحاد الأوروبي (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في البداية ثم الجماعة الاقتصادية الأوروبية) الركيزة الاقتصادية، للأمن والرخاء في أوروبا، وبالتالي للنظام الأوروبي الغربي.

ولكن مع نهاية الحرب الباردة ظهرت تساؤلات جديدة حول الهيئة التي يجب أن يكون عليها النظام الأوروبي. كانت الإجابة تتلخص في ضرورة نمو ركيزتي أوروبا الغربية ــ الناتو والاتحاد الأوروبي ــ لتشملا دول وسط وشرق أوروبا المؤهلة للعضوية. من جانبها، كانت عِـدة جمهوريات سوفييتية سابقة، والعديد من البلدان الأعضاء في حلف وارسو سابقا، راغبة في الحصول على ضمانات ملزمة بعدم إقدام روسيا على تعديل النظام الأوروبي.

وعلى هذا فقد جلبت عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي الوعد بالأمن الجمعي والسوق المشتركة. كان المأمول هو القضاء على آخر بقايا المواجهة القديمة بين الشرق والغرب، وضمان السلام الدائم من خلال التبادل الاقتصادي والاتكالية الاقتصادية المتبادلة.

ولكن في عهد بوتين، كانت روسيا تنتهج سياسة من نوع مختلف. فقد سعت إلى إعادة ترسيخ مكانتها كقوة عالمية من خلال المطالبة بالمزيد والمزيد من «الأرض الروسية»، وهذا يعني ضمنا قلب نظام ما بعد الاتحاد السوفييتي رأسا على عقب. بالنظر إلى الماضي وليس المستقبل، يريد بوتين استعادة الإمبراطورية الروسية القديمة. بينما عبر الأوكرانيون على نحو متزايد عن رغبتهم في الاندماج في الغرب، اتخذ بوتين خطوات ففي عام 2014، ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وأشعل فتيل حرب هادئة الحرائق في منطقة دونباس بأوكرانيا. والآن، أقدم على شن حرب شاملة، ودمر أي فرصة للتعايش السلمي بين روسيا والاتحاد الأوروبي. ومن الواضح أن التقسيم الجغرافي، الذي فرضه الابتزاز النووي، ستكون له الغلبة مرة أخرى على التبادل الاقتصادي والتعاون.

الآن، بات لزاما على الاتحاد الأوروبي أن يركز بشكل أكبر، مقارنة بالماضي، على القضايا الأمنية والجيوسياسية. علاوة على ذلك، الآن بعد أن قررت السويد وفنلندا الانضمام إلى الناتو، ستكون النمسا وأيرلندا ومالطا وقبرص البلدان الأعضاء الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي لا تنتمي أيضا إلى الحلف. وعلى هذا فسوف تتغير أيضا العلاقة بين ركيزتي النظام الأوروبي. سوف تضطر بلدان الاتحاد الأوروبي إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير فضلا عن تعزيز مساهماتها في الناتو بشكل عاجل.

سيواجه الاتحاد الأوروبي على نحو متزايد أيضا تحديات جيوسياسية عالية المخاطر، كما تُـظـهِـر بالفعل طلبات العضوية المقدمة من أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا. حتى وقتنا هذا، كانت الأداة الجيوسياسية الوحيدة تحت تصرف الاتحاد الأوروبي متمثلة في وعد العضوية الكاملة (وبالتالي النمو الاقتصادي والرخاء). ولكن تبين أن هذا الوعد كان مجرد وهم في حالة تركيا ودول غرب البلقان. في ظل إطاره المؤسسي والقانوني الحالي، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي ملاحقة مصالحة الجيوسياسية إلا في نطاق محدود للغاية، هذا إن كان لهذا النطاق وجود على الإطلاق. لذا، سيكون الاتحاد الأوروبي في المستقبل في احتياج إلى بنية أكثر مرونة، مع ترتيب شبه كونفدرالي يحيط بنواة فيدرالية. بدلا من اشتراط العضوية الكاملة أو لا شيء على الإطلاق، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقدم بدلا من ذلك إمكانية الوصول بشكل جزئي أضيق إلى السوق المشتركة، والأمن المشترك، والمجتمع القانوني في الاتحاد الأوروبي، والعملة المشتركة، وما إلى ذلك.

الواقع أن الاتحاد الأوروبي من غير الممكن أن ينمو إلى ما لا نهاية. ولكن يتعين عليه أن يتقبل حقيقة مفادها أن مصالحه الجيوسياسية تمتد إلى ما هو أبعد كثيرا مما تسمح به أداة العضوية الكاملة. ما دامت الأنظمة الاستبدادية تشكل تهديدا ماديا، سيصبح الاتحاد الأوروبي ــ الذي يمثل البديل الاقتصادي والاجتماعي ــ قوة متزايدة الأهمية ليس فقط في القارة الأوروبية بل وأيضا في المنطقة الرمادية الأكبر الواقعة إلى الشرق، حيث لا توجد حدود واضحة مع آسيا.

أيا كانت الأحداث الجارية في أوكرانيا، يستلزم الموقف التحلي بمرونة بنيوية جديدة وليس التقيد الجامد بترتيبات قديمة تجاوزت حدود الممكن أو وعود لا يمكن الوفاء بها.

يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005