كيف واجه الاستعمار حاجز اللغة العربية؟

30 نوفمبر 2022
30 نوفمبر 2022

عندما بدأ الاستعمار الغربي بالتخطيط للغزو العسكري لبلاد عربية وأجنبية منذ ما يقرب من قرنين تقريبا، كان يدرك تمام الإدراك أن الاستعمار العسكري لا يستطيع المكوث كثيرا في الدول التي تم استعمارها، وهذه مسألة تعرفها شعوب كثيرة، لكون الاستعمار والإخضاع بالقوة تأباها النفوس الحرة التي لا تقبل الخضوع دون الرفض وعدم الخضوع له، دون أن تتحرك في النهاية لإجباره على الجلاء، سواء بصورة سلمية أو بالقوة التي لا بد منها إذا لم ينجح التفاوض معه، وقد عرفها الغزاة بعد الحملات الصليبية وغيرها من الغزوات التي جرت، حتى بين الأوروبيين أنفسهم، مع أن الحروب الصليبية وإن حملت اللافتة الدينية، بحجة استعادة أرض السيد المسيح، لكنها كانت لهدف سياسي استعماري، وفي النهاية تم طردهم، مع أنهم مكثوا طويلا في هذه الأرض، لأن هذه الغزوات جاءت في فترة التراجع الحضاري والسياسي للبلاد العربية.

ولا شك أن الاستعمار يعرف أن الجانب الفكري والديني، له الأثر الكبير في مواجهته، ولذلك بدأت الدوائر السياسية والفكرية في أوروبا، بالنظر إلى توجه آخر، وهو دراسة الواقع العربي والاجتماعي والسياسي والثقافي للبلاد العربية، وركزت على اللغة العربية، باعتبارها اللغة الناطقة بكتابهم المقدس وهو القرآن الكريم ومن المهم أن يشترك التبشير في هذا المخطط.

وبدأت الدول الأوروبية، خاصة المملكة المتحدة وفرنسا، وبصورة أقل ألمانيا بعد ذلك في إرسال العديد من البعثات العلمية والبحثية، أو ما يعرف بحركة الاستشراق، وقد أشرت إلى ذلك بتوسع في كتابي: «الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف»، الصادر عن المركز الثقافي الغربي بلبنان والدار البيضاء بالمغرب، كما أرسلت الدوائر الغربية السياسية بعثات من الجواسيس تحت مسميات عديدة، بهدف الاختفاء من مراميها الحقيقية، والهدف الأساسي، هو دراسة الواقع العربي بصورة وافية وشاملة، والتعرف على حياة المجتمعات العربية وتقاليدها وعاداتها وسبل عيش هذه المجتمعات، إلى جانب دراسة الطرق والمسالك الأخرى التي سيسير عليها الغزو العسكري بعد ذلك، فهذه البعثات هي التي مهدت للغزو العسكري بعد ذلك ولعبت دورا كبيرا في التعريف بهذه البلدان من كل النواحي، ولا شك أن الهدف الأساسي الذي يهدف الاستعمار ووضع له الكثير من المخططات، قضية الاختراق الثقافي للمؤسسات التعليمية والثقافية في البلاد العربية، سواء في المشرق العربي، أو المغرب العربي أيضا، أو ما يسميه البعض بـ(الغزو الثقافي) المصاحب للغزو العسكري، الذي سيلعب الدور الأهم في قبول فكره ونظرته وربطه بالمركز، ومن ثم استتباعه، وتكوين بعض من أبناء جلدتنا ممن أصبحوا قابلين للفكر الغربي تأثرا به، ليقوموا بالدور نفسه الذي كان يتحرك فيه بعد اجتياحه، قبل أن يحمل عصاه ويرحل.

وهذا ما أعربت عنه بحق الدكتورة نازك الملائكة، في كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي)، من أن الاستعمار يعرف الفارق المهم بين الغزو العسكري والغزو الفكري، فـ«الغزو الفكري»: «فإنه لا يقتل بالنار والحديد، وإنما يهدم بالكلمة والحرف والمعنى، وسوى ذلك من سلاح غير محسوس، فهو ينطوي على الظلم والخبث معًا ويستهدف روح الأمة وجذورها فلا يلقيها إلا وهي أشبه بثمرة امتص رحيقها فلم يبق منها غير القشر والنوى، وما ذلك إلا لأنه يمسخ شخصية الأمة أي نبع الأصالة والإبداع فيها فيشلّها عن النمو والحياة، بينما لا ينجح الغزو العسكري في أكثر من تخريب مظاهر السكن والعمران، وهي أمور يمكن تعويضها لأنها لا تمس جوهر الحضارة ولا روح الأمة».

ففي بدايات التحرك الفكري والثقافي لمحو اللغة والهوية، شجع الاستعمار بعضا ممن أصبحوا قابلين للعب الدور الاستعماري نفسه، إما جهلا بما يريده وإما أنهم يدركون ذلك عن قصد، أو كما سماهم الدكتور أنور عبدالملك بـ(العملاء الحضاريين للغرب)، ومن هؤلاء لويس عوض، وسعيد عقل، وسلامه موسى، ويوسف الخال، وغيرهم ممن اتجه لهذا المنحى لتشجيع استبدال اللغة العربية، باللغة اللاتينية، ومنها تشجيع العامية في بعض البلاد العربية في الشام، باعتبارها اللهجة الدارجة في بعض هذه البلاد، لتكون كبديل للغة الفصحى -لغة القرآن الكريم- صحيح أن بعض هؤلاء من دعاة إحلال اللغة اللاتينية كبديل للغة العربية، ثم الانتقال للغات الأوروبية -الإنجليزية أو الفرنسية- مثلما فعل الغرب مع اللغة اللاتينية القديمة - وقد تراجع بعض هذا التوجه، وقد كانوا يرون أن اتباع الغرب فيما سار عليه هو التقدم والتمدن، لكن الشاعر سعيد عقل لم ينجح في قضية اللغة المحكية في لبنان، وعاد للعربية الفصحى وتراجع عن العامية، لأن القبول بهذه المحكية كان ضعيفًا، بسبب الروح القومية التي كانت أقوى من الانعزالية التي تريد تفتيت الأمة بدل الوحدة، وهي أحد المخططات من الاستعمار، وكان سعيد عقل من دعاتها البارزين فيما بعد.

ولا شك أن من أهداف الاستعمار في البلدان التي غزاها، كان استهداف شعوبها في أن يحصل الانبهار لهم إلى حد الذوبان في الغرب وثقافته وفكره، والسير معه في الطريق نفسها التي سار عليها، واللغة الغربية تعتبر اللائق الأكبر له لكونها لغة مقدسة عند العرب والمسلمين، ولا شك أن القرآن الكريم، حمى اللغة العربية من التلاشي والاندثار، بسبب التحولات الفكرية الكثيرة التي حدثت لانتشار الإسلام، لدول ومدن لها حضارات ولغات وفلسفات، لكن اللغة العربية صمدت بفضل القرآن الكريم، والجهود التي وُضعت بعد ذلك لهذه اللغة بالقواعد النحوية والبلاغة وغيرها التي تجعلها ثابتة الأركان من المزاحمة لها من اللغات الأخرى، وهذا ما أكد عليه الكاتب اللبناني منح الصلح في نقده لبعض من صار تابعا للغرب كاستتباع له فيقول: «على الرغم من عمق الهوة بين ثقافة الإبهار التي يمثلها هؤلاء، وثقافة الأصالة والتجدد المغروسة في البيئة العربية الإسلامية، فإن نجاحهم في إيجاد الفوضى الثقافية والأدبية والمفهومية كان لا يستهان به، إذ سهل عليهم أكثر مما سهل على الأجنبي من قبل، أن يشككوا في قدرة العرب على النهوض، وفي قابليتهم للحداثة، وفي قدرة الثقافة العربية على تحقيق إنجازات إن لم تبنِ نفسها في أفق الغرب وبمواد الغرب».

ولكن ذلك تهاوى مع ما يقوم به البعض مما يسعى إليه المستعمر، وأصبحت الثقافة العربية سلاح الأمة الفكري صامدا، وكذلك اللغة الغريبة التي حققت برغم تأثر البعض باللغات الأخرى ويعدها الدافع للتقدم والتحضر، وقد أشرنا في مقالنا الأسبوع الماضي إلى هُزالة هذا الاعتقاد السلبي في رأي العديد من الباحثين المهتمين في علوم اللغة وأصولها، ولذلك انتشر تعليم اللغة العربية في دول إسلامية، وأقيمت جامعات وكليات ومؤسسات تحتضن اللغة العربية فيها، غير البعثات من دول إسلامية، تذهب سنويًا إلى الجامعات العربية الإسلامية مثل جامعة الأزهر بمصر وجامعة الزيتونة بتونس، وفي جامعات كثيرة في الأوطان العربية، فقارؤها اليوم يستطيع أن يفهم ما كتب منذ القرن الخامس الميلادي بدون أن يجد صعوبة أو اختلالا في المعاني والمفردات بعكس اللغات اللاتينية التي تعتبر اللغة العلمية لجميع الأمم الأوروبية لا تستطيع هذه الأمم أن تلفظ منها حرفا واحدا بل إن كل أمة منها تلفظها لفظا مغايرا.. وهذا ما جعل «ارنست رينان» يقول: «كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء بدت في غاية الكمال بحيث لم يدخلها أي تعديل، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين عاما حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى».

ومن هنا أصبح لهذه اللغة خاصية متميزة لم تستطع الكثير من اللغات السامية وغيرها أن تشاركها أو على الأصح أن تصمد في وجه الاحتواء، ومرد ذلك طبعا إلى نزول القرآن وارتباطها به، ومن هنا كان مكمن الخطر الوحيد الذي يواجه اللغة العربية وأهلها، وهو أن ينزلوا إلى مستوى أسلوب القرآن فيصبح أسلوبهم قاصرا عن فهمه وتعمقه وهذا ما تحاول بعض الجهات النيل من اللغة عبر تعابير ومصطلحات براقة التي تدعو إلى ما يسمى بـ«تطوير اللغة» و«تفجير اللغة» وتشجيع العامية، لتكون البديل للعربية، لكن هذه كلها سقطت كما أراد الاستعمار، وسعى إليه مبكرا، لكن الخطر الآن هو إنشاء كليات وجامعات باللغات الأجنبية في عشرات الدول العربية، ومنها تم إنشاؤها من أبناء الوطن العربي، وهذه بلا شك سيكون لها أثرها على ثقافة الأمة ولغتها إن لم يتدارك العقلاء في مواجهة هذا التحدي القادم.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية، ومؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»