كيف نعزز الحوار الإنساني وغاياته المنشودة؟

22 يونيو 2022
22 يونيو 2022

لا شك أن تعزيز الحوار بين الحضارات أو الثقافات الإنسانية، مطلب مهم لا غنى عنه لكل الإنسانية، لإيجاد المساحة والأرضية الدافعة للتفاهم والتواصل والتقارب، بما يحقق الأهداف السامية في الحياة ومتطلباتها، وإبعاد عقبات الخلافات والتوترات والتوجسات التي قد تقع بين الإنسان وأخيه الإنسان، في ظل غياب الحوار الإيجابي المشترك، باعتباره المنهج الصحيح للتفاهم والتقارب بين الأمم في هذا الكون الفسيح وبما يجعل الحياة، بعيدة عن الخلافات والأزمات التي ربما تحصل لعوامل متعددة في خضم صراع الحياة وتشابكها وتعقيداتها، لكن الجانب المهم في ضرورات الحوار هو التقارب والتفاهم، ذلك أن الإنسان بفطرته الطبيعية التكوينية يميل إلى الاجتماع الإنساني بين الإنسان وأخيه، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون، وهو الأقرب إلى الفطرة الطبيعية.

ولذلك من أهم مقومات الحوارات وضروراته للنجاح المأمول، هو إرساء أسس العقلانية والموضوعية في الحوار القائم على احترام الآخر، من خلال منهجية الحوار على الاحترام المتبادل، بما يهدف إلى تحقيق التوافق وقبول الاختلاف وإيجاد الطرق الصحيحة لنجاحه، باعتباره سنة إلهية بين البشر، كما جاء في القرآن الكريم.

وهذا الاختلاف قد يحصل لأسباب فكرية أو ثقافية أو نفسية، وهذه مسألة طبيعية في الاختلاف بين البشر، لكن هذا الاختلاف يتطلب عبر الحوار،التجرد والابتعاد عن الأحكام المسبقة والإقصاء والأنانية، وتقديم الهدف الأسمى بما يؤسس واقعاً مبنياً على منطق إيجابي، وهو الوصول إلى التفاهم والتقارب بروح عقلانية منفتحة، من خلال الحوار الذي يقّرب وجهات النظر المختلفة، للوصول رؤية جديدة للحوار الذي يعزز التقارب الإنساني في البشرية. والحياة الإنسانية تواجه منذ قرون مضت، وما تزال تواجه الخلافات والمشكلات، وأحياناً تتحول إلى حروب وصدامات، وسببها غياب الحوار المبني على غايات نبيلة وإيجاد قواسم مشتركة للتقارب، مما يجعل الأحكام المسبقة تجاه الآخر المختلف، ليست بعيدة عن الصواب، وهذا ما يعزز قيمة الحوار وتأثيره في إبعاد الكثير من قضايا الشائكة التي قد تكون دافعة للاختلاف، لأسباب ومفاهيم مغلوطة، وتوجسات لرواسب قديمة جعلت الصورة السلبية عاكسة للوعي غير الناضج ثقافياً، ولذلك فإن إيجابيات الحوار وثمراته على التواصل الإنساني، يسهم إسهاما طيباً في تفعيل القبول بين المتحاورين، ويفتح الباب إلى قبول النقد ـ من خلال الحوارـ والارتقاء به إلى آفاق رحبة، مما يسهم في كسر الحواجز السابقة التي كانت مانعة للحوار المفضي للروح الإيجابية. ولذلك الكلمة الطيبة المحمّلة بالرغبة الصادقة في الحوار، سيكون لها أثرها المهم في التقارب، مما يسهم في إذابة الجليد القائم بين أطرافها، والذي قد يبدأ قوياً ومتثاقلاً في البداية، لأسباب كما أشرنا آنفاً، من حيث الخلّفيات الثقافية والفكرية المسبّقة التي قد جعل سوء الفهم مؤثراً بين المتحاورين، فالروح الطيبة السباقة إلى الفهم والتفاهم عبر الحوار، تستطيع إزاحة رواسب كثيرة متراكمة عبر قرون، أسهم غياب الحوار في جعلها رزما من الأنواء الفكرية المؤثرة في إبعادها عن واقع الحياة الاجتماعية، وهذه الرواسب سهلة التلاشي، إذا ما جعل أطراف الحوار وضرورته له الأولوية على قضايا ثانوية معيقة، لكن جدية الحوار ومحدداته الصادقة سيكون بلا شك ناجحاً بقابليته من كل الأطراف.

ومن هذه الرؤى الثاقبة فإن الحوار كقيمة إنسانية مهمة، هو الأقدر على فتح النوافذ بين الأطراف عند الاختلاف على أسس متوازنة ومنفتحة للتقارب الذي يؤسس لثقافة الحوار بين الحضارات، كبديل لإشاعة صدام الحضارات وصراعها، وقد كتبت في هذا الأمر وقلت ما نصه: ان الحضارات منذ ما قبل التاريخ تقابلت وتعايشت، وصارعت أحياناً، لكن ظلت أقرب للتفاهم والتعايش من خلال الحوار الندي في المشتركات الإنسانية، لكن الأهم والأجدر بالقبول هو الاستعداد للحوار من خلال الفهم المشترك.

هذا الرأي يمثل طرحاً إيجابياً لكيف تنجح الحوارات، ونضع لها من الوسائل ولطرق التي تعين على التجاوب بين أطرف الحوار، ومنها نعرف طبائع الناس وثقافتهم للوصول للقلوب، وفتح مغاليق الأحكام المسبقة، وهذه مهمة لا نجاح الحوار.

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، سنجد مئات الآيات التي تتحدث عن الحوار بين الخالق عز وجل والأنبياء، وبين الخالق عز وجل وإبليس، وبين الأنبياء وأقوامهم، ومنها الحوار مع بعض المخلوقات، وهو ما ذكره القرآن الكريم عما تم بين نبي الله سليمان وطائر الهدهد، هذه الحوارات كانت سببا في قبول هذا الدين القويم، إلى القيمة العظيمة لأهمية الحوار وإيجابياته، وكذلك في السنة النبوية، وأقوال العلماء والحكماء، لأهمية ودور الحوار في قبول هذا الدين والاستجابة له والسعي إليه باقتناع، وهذا مما يحسب لدور الحوار وتأثيره في تقارب الأفكار، وهذه حكمة إلهية اقتضتها مشيئته ـ سبحانه وتعالى ـ أن جعل الناس تتعدد في آرائها، وأفهامها، وتنوعها المعرفي والعقيدي، وجعل الحوار وسيلة من وسائل التقارب والتعارف والتعاون بين أبناء الجنس البشري، لعمارة الكون والهداية والخلق والإيمان.

ومن هذه الانطلاقة الإيجابية للحوار المنتج، انتهج الإسلام سبيل الحوار مع الآخر والانفتاح عليه، وفي أجواء من الحرية من الاختيار الذاتي، ولم يكن هذا الحوار طارئاً أو اضطرارياً أو براجماتياً، بل ان هذه المشروعية ثابتة بنصوص قرآنية، وأحاديث نبوية وسلوك نهجه الصحابة والتابعون والعلماء بعد ذلك، باعتباره أمراً إلهياً، فقد مارس المسلمون الحوار فعلياً على مستويات مختلفة مع شتى الحضارات والديانات تختلف في فكرها وفلسفتها مع الرسالة السماوية، لكن المشروعية الإسلامية ضمت هذا الحوار، واعتبرته فريضة ومنهاجاً، وبالتي هي أحسن، وأسهمت هذه الحوارات والمجادلات في خلق مناخ إيجابي ملائم لاستعراض الأفكار وطرح القضايا الخلافية، ومعالجة الإشكاليات بروح الحوار والجدل، وأذاب هذا النهج الكثير من التحفظات التي ارتهنت في العقل المخالف في بداية الدعوة، وفتحت قلوبهم لهذا الدين وقيمه الجديدة.

ولذلك يظل الحوار مع الآخر بوسائله الإيجابية،الطريق الأمثل، لطرح الآراء التي تسهم في حل إشكالية تنافر الأفكار وتصادمها وفشلها في التقارب وتقوية ما يعزز قيمة الحوار، فمن خلاله تستطيع الإنسانية أن تزيد التواصل والتفاهم مع الآخرين، بالإقناع والتفاهم الأخوي،والاحترام المتبادل، وهي بلا شك ستلعب دوراً مهما وإيجابيا في تقارب الآراء والأفكار.

والشيء الذي يدعو إلى الاستغراب، أن البعض من الباحثين، عندما يتحدثون عن قضية الحوار مع الآخر المختلف، يخلطون بين الحوار والتفاوض ! ويقولون إن الحوار مع الآخر لا يجدي ولا يحقق نجاحاً، لأننا لا نملك القدرة على الحوار في غياب عدم التوازن بيننا وبين الآخر المختلف، لكوننا ضعفاء والآخر هو أقوى، لكنني أرى أن الندية التي نحتاج إليها تكون في التفاوض، بين طرف ضعيف وخاسر، بعد خروجه مثلاً من هزيمة عسكرية، وبين الطرف المنتصر الذي يملي شروطه على الطرف الخاسر، لكن هذا يختلف عن الحوار، والذي لا يحتاج إلى الندية أو التكافؤ بين طرفين، والفارق شاسع بينهما، ففي صدر الإسلام، ومع بداية الدعوة، اعتمد المسلمون على الحوار مع المشركين، وأصحاب الديانات السماوية الأخرى، مع أن المقاييس مختلفة، فالمسلمون كانوا قليلي العدد، وهم الطرف الأضعف خلال الحوار، وغيرهم هو الطرف الأقوى عدة وعتاداً، ومع ذلك نجحوا في استمالتهم للحق في أغلبهم مع ما فعلوه لوقف الحوار حتى بالقوة، كما هو معروف في التاريخ، إذن الحوار مطلوب لذاته دون معايير ومقاييس أخرى تحد من انطلاقته بين الأمم جميعها.