كيف تُصنَع الفاشية؟

08 نوفمبر 2022
08 نوفمبر 2022

بعد مرور قرن من الزمن تقريبا منذ مسيرة الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني إلى روما وصعوده إلى رئاسة الوزراء في إيطاليا، جرى تعيين جورجيا ميلوني، في منصب رئاسة وزراء إيطاليا. تُرى هل نشهد الآن عودة الفاشية المستترة ــ ظاهرة سياسية انتشرت إلى خارج حدود إيطاليا منذ عام 1922؟

برغم أنه ليس من الخطأ أن نطرح مثل هذا السؤال، فإن الإكثار من استخدام كلمة «الفاشية» قد يجعل من الأسهل على قادة اليمين المتطرف أن يزعموا أنهم أيضا يجب أن يعملوا على تضخيم تهديدهم للديمقراطية ما دام منتقدوهم يواظبون دوما على المبالغة. كما كان متوقعا، بذلت ميلوني جهودا عظيمة لتنأى بنفسها عن الفاشية في خطابها الأول أمام البرلمان. مع ذلك، عندما ننظر في مسألة الفاشية اليوم، يتعين علينا أن نتذكر أنها مرت عبر مراحل مختلفة. بينما لا توجد أنظمة فاشية في أوروبا أو الأميركيتين اليوم، فهناك بكل تأكيد بعض الأحزاب ــ بما في ذلك أحزاب حاكمة ــ التي قد تتحول تدريجيا في اتجاه أكثر فاشية. مثلها كمثل أي معتقد سياسي، من المتوقع أن تتطور الفاشية. الليبرالية اليوم ليست كما كانت قبل قرن من الزمن، والتيار المحافظ ــ الذي لا يجب أن نخلط بينه وبين موقف رجعي أو حتى موقف متعصب بصرامة ــ يجد معناه في التكيف بحرص مع الظروف المتغيرة. ما يحدد هيئة هذه الأنظمة هو التزامات القيم الأساسية والتي ينبغي التعرف عليها بمرور الوقت. يروي الليبراليون قصصا حول الحرية؛ ويتعمق المحافظون في شرح مخاطر التغيير السريع وحدود العقل البشري في إعادة تشكيل المجتمع. ماذا عن الفاشيين؟ بادئ ذي بدء، كانوا جميعا قوميين وعدوا بعودة الميلاد للقومية ــ بمعنى جعل البلاد عظيمة مرة أخرى. لكن ليس كل القوميين ينتهجون الفاشية، والعديد من الساسة يعدون بشكل ما من أشكال الإحياء أو التجديد. ما يميز الفاشيين تاريخيا تمجيدهم للنضال العنيف والبطش والولع بالقتال. كما عملوا على تعزيز تسلسل هرمي جنساني، ووطني، وعِرقي، مع افتراض مفاده أن الأجناس على وجه الخصوص تخوض صراعا دائما ومميتا. يعمل اليمين المتطرف اليوم دون أدنى شك على إعادة تأسيس الأدوار والتسلسلات الهرمية التقليدية على أساس جنساني (الذكر والأنثى)، ويستمد قدرا كبيرا من طاقته من سياسات الإقصاء المتصلبة: يجب إبعاد هؤلاء الغرباء عن الأمة، خشية أن يحلوا في النهاية محل الـعُـصبة المهيمنة. لكن الأمر لا يخلو أيضا من خطر محسوس من الداخل: على وجه التحديد «النخب الليبرالية» والأقليات التي لا تُـعَـد بين أعضاء ما يسميه الشعبويون المنتمون إلى اليمين المتطرف «الشعب الحقيقي».

لكن سياسة الإقصاء هذه لا تسير بالضرورة جنبا إلى جنب مع تمجيد العنف والنضال كوسيلة لتزويد الرجال (هم من الرجال عادة) بحياة بطولية هادفة ومنضبطة. نشأت الـسِـمة الأخيرة في نهاية المطاف من الحشد الجماهيري للحرب العالمية الأولى، مع ثناء موسيليني على «حكم عسكر الخنادق»: مجموعة أروستقراطية من المحاربين الشجعان ــ على عكس محاربي لوحة المفاتيح في عطلة نهاية الأسبوع ــ الذين أصبح القتال جزءا منهم. منذ انتهت الحرب، واصل أتباع موسيليني العنف في الوطن. على نحو مماثل، من غير الممكن أن نفهم صعود هتلر خارج سياق الميليشيات اليمينية المتعطشة للدماء التي ظهرت في ألمانيا في أوائل عشرينيات القرن العشرين.

ليس من قبيل المصادفة أن تنشأ الأنظمة الفاشية في بلدان إما خسرت (كما في حالة ألمانيا) أو شعرت أنها خسرت (إيطاليا) صراعا عسكريا. ليس من قبيل المصادفة أيضا أن الأنظمة الفاشية خاضت الحرب عاجلا أو آجلا، على عكس الحكومات الاستبدادية، التي تفضل عادة عدم تعبئة مجتمعاتها. أجواء العنف المتفشية هذه هي المفقودة اليوم. صحيح أن المحاربين القدامى ممثلون بشكل مفرط داخل المجموعات الأكثر عنفا في اليمين المتطرف، وأن قادة اليمين المتطرف اليوم يجلبون ما تسميه الفيلسوفة كيت مان «العدوان المتقاطر إلى أسفل». ولكن حتى في الأماكن حيث وصل اليمين المتطرف إلى السلطة، فقد سعى إلى إلغاء مظاهر حشد المواطنين والتصالح مع الرأسمالية الاستهلاكية. هل ينبغي لنا إذا أن نتجاوز الجدال حول الفاشية؟ سيكون هذا من قبيل التسرع الشديد. فكما أوضح المؤرخ البارز روبرت باكستون، تأتي الفاشية في مراحل مختلفة. تقول الحكمة التقليدية الحالية إنه في حين قُـضي على الديمقراطيات المتضررة في القرن العشرين عادة بفعل انقلابات عنيفة، فمن المرجح أن تسقط الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين بأيدي المستبدين الطموحين الذين يتلاعبون بمهارة بالقوانين بمرور الوقت لجعل إزالتهم من مناصبهم شبه مستحيلة. يُـقال إن مثل هذا التحول إلى الاستبداد ــ وهو تعبير جديد قبيح لكنه ضروري ــ أكثر فعالية بسبب صعوبة استكشافه. لكن هذا التباين يتغافل عن حقيقة مفادها أن الفاشية ــ على الرغم من تمجيدها للعنف ــ لم تضطر في كثير من الأحيان إلى الانخراط في العنف لتحقيق أهدافها. موسيليني ذاته لم يشارك في المسيرة إلى روما. بل وصل بسيارة نوم من ميلانو بعد أن قرر ملك إيطاليا والنخب التقليدية منحه السلطة، على أمل أن يعالج الفوضى السياسية التي بدت وكأن لا أحد غيره قادر على التعامل معها. علاوة على ذلك، بات من المنسي إلى حد كبير الآن أن موسيليني حكم لسنوات داخل هياكل الديمقراطية الإيطالية، حتى أنه ضم كثيرا من الليبراليين المعلنين في حكومته. لقد مارس ما يوصف اليوم غالبا على أنه «الشرعية الاستبدادية». فاتبع نص القانون منتهكا روحه؛ أو استن التشريعات بطرق صحيحة إجرائيا لكنها وضعت حكم الرجال فوق حكم القانون. من المؤكد أن وفرة من أعمال العنف المروعة وقعت أيضا، وأكثرها شهرة جريمة قتل السياسي الاشتراكي جياكومو ماتيوتي. لكن موسيليني لم يصبح دكتاتورا بشكل صريح حتى عام 1925 (في حين لم يترك هتلر أدنى شك حول الحكم العنصري الشامل الذي اعتزم تأسيسه منذ أول يوم له في السلطة بعد تعيينه مستشارا لألمانيا). من قبيل الفشل في الحكم السياسي أن نخلط بين اليمين المتطرف اليوم والفاشية. لكن من المحتم أن نراقب عن كثب كيف يتطور اليمين المتطرف بمرور الوقت. الواقع أن التحول إلى الفاشية ــ المتمثل في الالتزامات الصريحة بالاستبداد وتمجيد العنف ــ من الممكن أن يحدث بسرعة، لكنه أيضا قد يحدث ببطء شديد. على أية حال، يُـعَـد سلوك النخبة التقليدية عاملا أساسيا يجب مراقبته. هذا واحد من الدروس الأقل فهما حول صعود فاشية موسيليني في إيطاليا القرن العشرين.

جان فيرنر مولر أستاذ السياسة في جامعة برينستون ومؤلف كتاب قواعد الديمقراطية.

خدمة بروجيكت سنديكيت