كونك استراتيجيًّا لا يكفي ..

26 سبتمبر 2023
26 سبتمبر 2023

في عالم تضخم المعرفة والتكنولوجيات، حقق عدد من القادة الأسطوريين نجاحات مذهلة في الإدارة، وبناء الأعمال، مثل ستيف جوبز، وبيل جيتس، ومارك زوكربيرج، وهي لم تأتِ من فراغ؛ إذ قامت أعمالهم وجهودهم على استراتيجيات نابعة عن مهاراتهم الاستثنائية في القيادة، والتخطيط، والتنفيذ، وهذه الاستراتيجيات لا تنتمي بالضرورة لأي مدرسة فكرية؛ لأن النافذة الجوهرية لتصميمها هي خلاصة الرؤية والخبرة التي يمتلكها القادة التنفيذيون، والسؤال هنا كيف يمكن صياغة استراتيجية عمل ناجحة على ضوء ندرة قادة العمل الديناميكيين من ذوي المهارة، والخبرة، والنظرة الثاقبة في صناعة «الاستراتيجية الاستثنائية»؟ ولكن قبل أن نتحدّث عن آليات صياغة الاستراتيجيات الرصينة والناجحة، لا بد من إعادة تشكيل الفهم السائد عن الاستراتيجيات، واستعراض المدارس الفكرية الشائعة في وضع الخطط والاستراتيجيات، حيث قدم الأكاديمي والكاتب هنري مينتزبيرج ورقة نقدية مشهورة في هذا الشأن، واعتبرها المفكرون ذات أهمية كبيرة؛ فهي بمثابة إطار شرح وتقييم للتوجهات والمنطلقات الأساسية لرسم الخطط الاستراتيجية في عالم الإدارة، وريادة الأعمال، والتنمية الذاتية، فتأتي في المقدمة مدرسة الفكر التصميمي التي تعد الأكثر استخداما، وهي تقوم على نموذج رباعي لتحليل نقاط القوة، والضعف، والفرص، والتهديدات؛ من أجل التوفيق بين القدرات الداخلية، والإمكانات الخارجية، وتعمل استراتيجيات هذه المدرسة بشكل ناجح في الأوضاع المستقرة للبيئة الداخلية، والخارجية، ولكن يبقى تحليل هذه القوى الرباعية معرَّضا لفقدان الموضوعية، أو قلة الدقة لاعتمادها الكبير على البيانات والمعطيات المتعلقة بالأداء الفعلي أثناء إعداد الاستراتيجية، وهذه هي أكبر التحديات، أما مدرسة التخطيط فهي تعد من أمثلة المنهجيات الصارمة في وضع الخطط والاستراتيجيات، والالتزام في تنفيذها، ولكن أهميتها الحرجة تعتمد على متطلب عنصر الاستشراف الدقيق للمتغيرات المحتملة، وإلا فإنها تصبح استراتيجية بلا جدوى.

وهناك مدارس فكرية تتمحور حول التنافسية، ومواقع التأثير الاستراتيجي داخل المنظومات الاقتصادية، وهي تسمى أيضا بمدرسة مايكل بورتر في التخطيط الاستراتيجي؛ لكونها تقوم على نظريات تحليل الوضع التنافسي حسب الأسس، والمفاهيم الاقتصادية، وتضع في الإجمال ثلاثة خيارات أمام مستخدمي الاستراتيجية، وهي الاعتماد على عامل التكلفة، أو تحقيق الميزة التنافسية، أو التركيز على المجالات التخصصية، وتتأثر هذه المدرسة بشدة بالاقتصاد الكلي، وتقلبات السوق، ودخول المنافسين، وقد مهدت هذه المخاطر لظهور المدرسة الريادية التي أتاحت نهج تطوير الاستراتيجيات المدفوعة بديناميكيات اقتناص الفرص المواتية، دون التقيّد الكامل بقوانين البيئة الخارجية الراهنة، ولا تختلف المدرسة المعرفية لصناعة الاستراتيجيات كثيرا عن النهج الريادي؛ فهي تقوم على «الخرائط الذهنية»، ولا تعد من المنهجيات العملية المفيدة؛ لأن الجانب التخطيطي فيها محدود، وبذلك هي معرّضة لمخاطر تداخل الانطباعات، والانعكاسات الشخصية، مما أسهم في ظهور مسار موازٍ يسمى بالمدرسة الثقافية التي تعتمد على الأطر المؤسسية، والثقافات السائدة فيها، ويعتمد تشكيل الاستراتيجية هنا على القيم الثقافية الفريدة للمؤسسة، أو المنظومة، وكذلك على منهجيات الإدارة الذاتية، وأساليب صنع القرار، وبذلك يصبح إعداد الاستراتيجية أشبه بعملية التفاعل الاجتماعي والثقافي، وتصطدم هذه الاستراتيجيات بتغييرات الثقافة المؤسسية، ويصبح حينها اتجاه التنفيذ ضبابيا مع مقاومة التغيير.

ولا تخلو المدارس الفكرية من الاتجاهات البيئية الموجهة نحو متطلبات الأوساط الخارجية، مثل المدرسة القائمة على التموضع، وهي منبع ما يسمى اصطلاحًا استراتيجيات القوة، وأصحاب القرار؛ كونها تعتمد على تحقيق توقعات أصحاب التأثير الأقوى، وكذلك ظهرت مدرسة التعلم في وضع الاستراتيجيات التي تقوم على أساس اتباع أو تجنب خرائط العمل السابقة، وهذا ما يفقدها عنصر المواكبة، والمواءمة؛ لأنها استراتيجيات تنظر إلى الماضي، وبمثابة توجيه نحو مسار مرّت به المؤسسة، أو صاحب العمل، وعليه هي طريقة غير مجدية في حالات الطوارئ، والأزمات غير المسبوقة؛ لأن احتمال تكرار الأخطاء السابقة يعد واردا بشكل كبير.

ومع تنوع مسارات وضع الاستراتيجيات، تؤكد الدراسات والقراءات العلمية أن جميع الاستراتيجيات الوطنية، أو الإقليمية، أو الدولية لا تخرج عن مدرسة التكوين، التي تعكس نمطا فكريا يركز على التهيئة الشاملة، والتطوير التدريجي للاستراتيجية، مع إتاحة المرونة للانتقال من نهج إلى آخر حسب مقتضيات البيئة المؤسسية داخليا، والوسط المحيط خارجيا، وهي عملية تفكير واقعية للغاية؛ لأنها تعيد إنتاج القيم المؤسسية، والأهداف، والغايات العليا تبعًا للمتطلبات الناشئة، وبذلك تكتسب المؤسسة أو المشروع الريادي المستوى المطلوب من الرشاقة الاستراتيجية، وكذلك تحصل على درجة من الجاهزية والاستباقية معًا.

دعونا نعود للسؤال المركزي، كيف يمكن صناعة استراتيجية عمل تمهد الطريق نحو الوصول للأهداف المنشودة؟ في البدء لا بد من الإشارة إلى أنه في عالمنا المليء بالتغيُّرات لا يمكن الاعتماد على مدرسة فكرية واحدة، ولا يمكن كذلك دمج التوجهات دون تفكير عميق، لذلك فإن نقطة الانطلاق في وضع أي استراتيجية تعتمد على إيجاد التوازن بين ثلاثة أضلاع أساسية هي: التخطيط المتناسب مع المتطلبات، والتموضع الذكي، ومدى توفر الموارد الداعمة للتنفيذ، إذ لا يعد الإطار النظري للمدرسة الفكرية عاملا حاسما في نجاح صناعة الاستراتيجية، في المقابل هناك عوامل أخرى متداخلة يجب الوقوف عندها قبل الشروع في إعداد الاستراتيجيات، فهل يسأل قادة العمل أنفسهم أهم الأسئلة في هذا الشأن مثل ما هي الاستراتيجية في أبسط معانيها؟ ولماذا هي مهمة الآن؟ وما هي الضمانات في الواقع العملي بأنها قابلة للتنفيذ وجني العوائد المتوقعة منها؟ الاستراتيجية هي وثيقة عمل تؤطر طموحات وتطلعات المؤسسة أو صاحب العمل من خلال رؤية مستقبلية، ثم تضع دعائم هذه الرؤية في مجموعة من الأهداف، وتبحث عن الوسائل والإجراءات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وتسعى لإعادة تشكيل قيمها، وقدراتها لدعم البيئة الحاضنة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، وبذلك فإن وجهة النظر القائمة على الموارد هي النظرية الأكثر شيوعًا في تاريخ وضع الاستراتيجيات، وفي الإدارة عموما، ويتم تحقيق ذلك من خلال استهداف الميزة التنافسية المستدامة، والتحكم الرشيد في الموارد والقدرات، مع إتاحة مستوى التوافق بين الموارد، والقدرات، والطموح المنشود، وبما أن لكل فريق عمل أو مؤسسة قدرات وموارد مميزة، فإن الخطط الموجهة بالموارد تكتسب الخصوصية، والهوية المتفردة، وتكون الأقرب إلى تحقيق أهداف الاستراتيجية بشكل واقعي.

فالموارد الملموسة، وغير الملموسة هي مصدر قدرات المؤسسة، وعمودها الفقري في مرحلة التنفيذ، وهي تشمل مدى واسعا من القدرات التنظيمية، والتكنولوجية، والثروة البشرية، ومصادر التمويل، وهي قابلة للتقدير والقياس، وترافقها مجموعة الموارد غير الملموسة التي تضم الأصول غير المادية مثل المعرفة التقنية غير الصريحة، والخبرات، والمعارف الضمنية، ومنهجيات العمل، والثقافة، والقيم المؤسسية، والمواهب، والابتكار، ورأسمال العلاقات الاجتماعية مع الشركاء، والمستفيدين، والتي عادة ما تكون متجذرة بعمق في تاريخ المؤسسة، وهويتها، وسمعتها الخارجية، وقد تشكلت وتراكمت مع مرور الوقت، وهي معقدة بالقدر الذي يجعل من الصعب نسبيا على المنافسين تحليل قوة هذه الموارد غير الملموسة، وتقليدها، ولذلك فإن التركيز على التخطيط المستقبلي القائم على الموارد يعني في الأساس صناعة الاستراتيجية التكيفية من حيث تحديد الرؤية، والأهداف، والنظر في الموارد المتاحة، ثم إعادة تشكيل الاستراتيجية في عدة بيئات غير متوقعة، واختبار مختلف السيناريوهات لتحديد «الموارد القيَّمة» أو ما يطلق عليها عوامل النجاح الحاسمة، بهذه المنهجية يمكن تحويل الموارد الداعمة على المدى القصير إلى ميزة تنافسية مستدامة، وذلك بدمج الأهداف مع متطلبات التنفيذ، والموارد المتفردة، وغير قابلة للاستنساخ في بيئات أخرى، وهذا يترجم الهوية المؤسسية المتميزة التي لا يمكن تقليدها، أو استبدالها، ويسمح في الوقت نفسه بتنفيذ الاستراتيجية، والمحافظة على العوائد الإيجابية.

إن صياغة استراتيجية العمل ليست مهمة كتابية، ولا تتطلب مهارات التعبير، وتصميم الرسومات التوضيحية، إنما هي عملية حاسمة في تأسيس القدرة التنافسية المستدامة للمؤسسة، أو للمشروع، وتتطلب تفهم حقيقة أن ديناميكية التغيير، والمخاطر الجديدة التي تنشأ باستمرار تجعل من مهمة المخططين أكثر صعوبة، وكونك استراتيجيًا لا يكفي، يجب أن تكون مراوغا مع التحديات، وفعالا في الوقت ذاته، وبأن تكون الدماغ الذي يحتاجه العمل في أوقات تحقيق الإنجازات، وحينما تهب الرياح المعاكسة، والظروف غير المواتية فالموارد، والقدرات، والكفاءات الأساسية لا توجد جميعها بشكل دائم، ولا بد من المناورات الاستراتيجية بتوظيف المزايا الحالية في تطوير مزايا جديدة، وتوليد قدرات مماثلة، واستنساخ كفاءات أساسية، وذلك بمثابة تعزيز الأصول الاحتياطية في مواجهة التحديات التنظيمية، وبهذا النهج لا حاجة للبحث عن الاستراتيجية الاستثنائية، إذ يمكن بناء استراتيجية ناجحة بغض النظر عن تمركزها التكويني، أو عدم وجود القادة الأسطوريين، لأن أذرع التنفيذ قد تم إعدادها على نحو يضمن البقاء، والازدهار، والاستدامة.