كنوز البصمة المهنية
إذا سألنا المختصين في إدارة الموارد البشرية عن أهم الوثائق التي تعزز الولوج إلى سوق العمل، ستأتينا الإجابة بأن السيرة الذاتية تعد المفتاح الذهبي لخلق الانطباع الأولي الإيجابي، وها هي المواقع والتطبيقات الإلكترونية، تتنافس في عرض خدماتها الاحترافية بشأن كتابة وتصميم وإخراج وثيقة منمقة للسيرة الذاتية، ولو نظرنا إليها بموضوعية نجد بأنها ليست سوى مجموعة عناصر تحدد احتمالية التوظيف من عدمه، ويتم تطويعها حسب متطلبات الشواغر الوظيفية، لكنها لا تمنح المؤسسة ضمانات تحقيق الاستفادة القصوى من المهارات والكفاءات المذكورة فيها، وفي الجهة المقابلة تختلف الصورة كلياً حين يستقيل الموظف أو يتقاعد، تتعرض الخبرات والمهارات الواقعية التي يمتلكها الموظف إلى مخاطر الفقد والإهدار، فالنظم المؤسسية لا تلزم الموظفين بمشاركة السيرة المهنية بعد نضوج تجربتهم وانتهاء رحلتهم، كوثيقة الخروج من سوق العمل، فهل تدرك المؤسسات قيمة المعارف التي يحملها أصحاب الخبرات والتجارب المتعددة؟ وبأن هذه البصمة المهنية هي أكثر بكثير من مجرد تجربة فردية؟ وأن الفواقد المعرفية لا تقل تأثيرا وأهميةً عن الخسائر في الأصول المادية الملموسة؟
لنضع أيدينا على واحدة من أكثر التحديات المعاصرة التي تواجه المؤسسات في جميع القطاعات؛ الحكومية منها والخاصة، ومؤسسات المجتمع المدني، وهي فقدان المعرفة الضمنية الثمينة، التي تشكل غالبية الأصول المعرفية الاستراتيجية على المستوى المؤسسي، ففي زمن الثورات العلمية، والتقنية أصبحت المعارف الصريحة متاحة، وبرغم الجهود العلمية الكبيرة التي يقوم بها الباحثون والمفكرون في وضع نماذج عمل وممارسات تساهم في قياس المعرفة الضمنية المختزنة في ذاكرة الموظفين، وقيمهم، ومهاراتهم، وخبراتهم، وحكمتهم، وإدارتها بشكل يرعى تحويلها تدريجيا إلى معرفة صريحة، إلا أن هذه المحاولات لا تزال بعيدة عن التحقق، إذ تتشكل المعرفة الضمنية عبر مسارات ذهنية معقدة، وهي ذات طبيعة تراكمية، ولكونها غير ملموسة فإن استخلاصها من ذاكرة حاملي هذه المعرفة تتطلب آليات غير معتادة في التفكير والاستدعاء، وبحسب الأدلة العلمية المتاحة فإن مشاركة المعرفة، والمحاكاة هما أفضل السبل لترجمة هذه «البصمة المهنية» إلى معلومات مجزأة، يمكن تدوينها كأجوبة على أسئلة تستهدف المسيرة العملية، وتوثق الخبرات السابقة في سياقها الزمني والمكاني، وبذلك تكون بمثابة المرجع للحالات المشابهة في المستقبل، وتضمن نجاح المؤسسة في استرداد مكتسباتها من الأصول المعرفية، فحامل المعرفة الضمنية قد طور ذلك المخزون الثمين من خلال عمله في تلك المؤسسة، وبذلك فهي لا تؤول إليه وحده، حتى وإن ساهمت سماته الشخصية بشكل جذري في تشكيل هذه المعرفة.
ولكن لا تقتصر آليات نقل ومشاركة البصمة المهنية على الاحتكاك بحاملي المعرفة الضمنية، فهناك وسيلة أخرى لإتاحة خلاصة التجارب والخبرات والحكمة، وهي تدوين السيرة المهنية، وهي لا تختلف كثيرا من حيث البُنية الوثائقية عن أدب السير، والمذكرات الشخصية، لكنها تحفل بالكثير من التحليلات الفكرية التي لا تماثل السرد والبوح البحت، هي تحكي رحلة مهنية امتدت عقودا من الزمن، وتظهر الجانب الآخر لفنون الإدارة، ودور المواهب، والعادات الشخصية، والطموح، والقدرات الفردية أو المشتركة في الوصول للغايات المرجوة، وحقيقة أن العمل المؤسسي لا يعتمد بشكل كبير على القواعد العلمية، والنظريات السائدة، والممارسات المعتمدة، وإنما هو يشبه مجموعة من التفاصيل الجزئية، والقطع الصغيرة التي تشكل المشهد الكبير للعملية الإدارية، وليس هناك شكلا واحدا صحيحا، وإنما يمكن صناعة الفرص، والبحث عن المكاسب بأشكال ابتكارية مختلفة، تبعاً للخبرات التي تقود هذه العملية، والطموح الذي يوجه هذه المحاولات، وأي إخفاق أو تراجع فهو يعود لنضوب المعارف الضمنية، وليس لمحدودية الفرص المحتملة.
تعالوا نأخذ مثالا واقعيا، ونقف قليلا عند كتاب «دائما على الموضة» (Always in Fashion) لمصمم الأزياء الأمريكي الشهير بيرت جيجر، الذي نشر في عام 2016 مع احتفال الكاتب حينها بعيد ميلاده الخامس والتسعين، حقق الكتاب مبيعات وانتشارا واسعا، وهو لا يحتوى على نظريات معقدة في الإدارة، لكنه يستعرض خبرة جيجر الحقيقية لمدة نصف قرن في قطاع الموضة والأزياء، ضج حفل التدشين الذي أقيم في نادي مجتمع كارولينا ميدوز للمتقاعدين بالقراء والمهتمين من مختلف الفئات العمريةK والتخصصات المهنية، والاهتمامات الشخصية، استغرقت كتابة هذه السيرة المهنية ما يربو على العشرين عاما، وتنقل للقارئ مسيرة جيجر في قطاع سريع التغيير، وكيف استطاع أن يحافظ على تألقه، فلم تتقادم أعماله ومنتجاته يوما، بل كانت دائما على الموضة، وتتماشى مع تفضيلات المستهلكين، كان مصمم الأزياء قد أودع خبراته وملكاته وذوقه في مهنة لم يخطط لها، قادته إليها معاناته الصحية، والصعوبات المالية، لكنه قبل التحدي، ووضع فيها كل طاقاته الإبداعية، ولم تتزعزع ثقته يوما، فوجد شغفه وبرع للحد الذي جعله مصدر إلهام الكثيرين.
ذكر جيجر في سيرته المهنية بأن نجاحه يعود إلى إرادته العنيدة في تحقيق التميز، وترك بصمة مهنية لا تنسى، واسترسل في وصف بداياته المتواضعة التي تعثرت مرارا، وكيف حشد قدراته في إعادة تشكيل قواعد العمل حسب فلسفته، وقناعاته، ومهاراته التي تبلورت مع الخبرة العملية، واختار مسارات مبتكرة وجديدة كليا، وكانت وقتها تتعارض مع ما كان متعارفا عليه في دور الأزياء الراقية داخل أمريكا وخارجها، فتوقع الكثيرون فشله وخروجه من هذا القطاع المعقد، لكنه أذهل المحللون بصعوده نحو النجاح، وإنشاء علامته التجارية الخالدة، والدرس الأكبر من قراءة هذه السيرة المهنية الاستثنائية، هو أن المعرفة الضمنية في أي مهنة هي الأساس، وأن السيرة المهنية لا تتيح خبرة من سبقوا في الدرب وحسب، لكنها تعطي نظرة دقيقة للأحداث والعلاقات، وديناميكيتها تبعا للوسط المحيط، وكيف أن كاتب السيرة المهنية يعيد هندسة هذه الأحداث بمرور الوقت عليها، وتطور فهمه لها، ونضجه المهني، فتأتي بمثابة التوثيق لمجموعة من السياقات والاتجاهات العميقة، وبذلك فإن هذه السير لا يتوقع منها أن تجيب عن جميع الأسئلة، أو أن تضع الحلول لجميع الصعوبات.
إذا أسقطنا فكرة تدوين السيرة المهنية على واقع المؤسسات، نلاحظ بأن الوعي بأهمية البصمة المهنية ليس شائعا بالقدر الكافي، بل يعدها الكثيرون نوعا من الكتابات الأدبية الصرفة، التي لا تناسب البيئة المؤسسية، والعمل الرسمي، ولكن القوة الحقيقية للسيرة المهنية أنها لا تتطلب مواهب أدبية وشاعرية، وإنما تتطلب التدوين بصورة تسهل فهمها، والرجوع إليها للاستئناس بها، فالمؤسسات هي هياكل اجتماعية، والموظفون يميلون إلى التعلم القائم على التواصل والتفاعل الاجتماعي، أكثر من أنشطة قاعات التدريب المعتادة، وهكذا تتحول السيرة المهنية من مذكرات موظف إلى بوتقة تنصهر فيها معارف وقيم، وأحداث، ومواقف، وتجارب ملموسة، لتعكس واقع العمل في فترة زمنية معينة، وفي ظروف اقتصادية، واجتماعية متباينة، وهي إن اختلفت معطياتها إلا أن جوهر المعرفة الضمنية المكتنز فيها لا يخلو من تقديم تجربة إدارية متنوعة ومفيدة، ووجود هذه الوثائق يعد أمرا مهما في دعم إعداد قيادات العمل، وكذلك تحفيز بقية الموظفين في كل موقع في المؤسسة.
ودون شك لا يمكن الاعتماد على المبادرات الفردية في كتابة السيرة المهنية، فأصحاب المعارف الضمنية والخبرات العملية القيِّمة قد لا يدركون بأنفسهم عمق الثراء المعرفي والفكري الذي يمتلكونه، وهنا يأتي دور المؤسسة في المبادرة بتثمين هذه المعارف واستخلاصها، وتدوينها، وترجمتها إلى معرفة صريحة، وهناك خطوات إجرائية متنوعة يمكن اتباعها، مثل تنفيذ جلسات العصف الذهني القائمة على النقاش التفاعلي المشترك وتوثيق المخرجات، أو انتهاج إطار مشابهه للمقابلات الشخصية، حيث يتم توجيه أسئلة، أو طرح مواضيع تحفز حامل المعرفة على سرد التجربة الذاتية كجزء من الذاكرة المؤسسية، ومشاركة حصيلة خبراته، وذكرياته المهنية، كإضافة هامة إلى الأصول غير الملموسة، وكجسر يربطه بموظفي المؤسسة المستقبليين، وهذه الفلسفة تكسب المؤسسة أقصى درجات الالتزام بالتضمين، وحفظ التنوع ليس فقط على مستوى الموظفين الذين ينتسبون للمؤسسة في وقتها الحالي، وإنما على المدى الزمني، وعبر الأجيال التي تتعاقب في العمل، والتي لم تتلاقى في الواقع، لكن التواصل المهني كان حاضرا من خلال الاطلاع على قصص من سبقوهم في المؤسسة، وإذا أعدنا الأفكار إلى أصولها البديهية نجد أن الخطوة الأولى في توظيف كنوز البصمة المهنية يبدأ بإدراك أن دورة حياة الموظف تبدأ بالسيرة الذاتية، وتنتهي بالسيرة المهنية، وما بينهما من مواهب وخبرات ومهارات هي بمثابة محركات التعلم والإلهام التي يجب حفظها وإتاحتها للاستفادة، وهذه البصمة المهنية تحوي معارف لا غنى عنها في عصر التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي، وعلم الخوارزميات.
