كما يقول براين تريسي

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

في يناير من عام 2017م أطلقت الحكومة البريطانية الورقة الخضراء للاستراتيجية الصناعية الجديدة، التي كانت لتأخذ حيز التنفيذ بحلول العام 2020م، ومصطلح الورقة الخضراء في سياق التخطيط الإجرائي يطلق على المسودة الأولية لوثيقة الاستراتيجيات والسياسات التي تُنشر للمناقشة والمشاورة الرسمية مع المختصين وذوي العلاقة قبل اعتمادها، تضمنت الاستراتيجية الصناعية للمملكة المتحدة عشر ركائز استراتيجية من أجل تحسين مستويات المعيشة، ودعم استدامة النمو الاقتصادي برفع الإنتاجية في السنوات المقبلة بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، مع ضمان الخروج السلس والمُنظم خلال المرحلة الانتقالية، وإظهار التزام الحكومة باستراتيجية صناعية حديثة، وُصفت في الإعلام الرسمي آنذاك بأنها «لحظة مهمة وحاسمة لمستقبل الاقتصاد في المملكة المتحدة».

أكدت كل من الركيزة الأولى والثانية على الدور المحوري للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والهندسة، وتحفيز الابتكار وتطوير المهارات اللازمة للازدهار في اقتصاد أكثر إبداعا، أما بقية الركائز فقد حددت نطاق التركيز الاستراتيجي التي شملت تطوير البنية الأساسية ودعم التجارة والاستثمار، وبناء قطاعات حيوية منافسة عالميا، وإتاحة الوصول للطاقة النظيفة والخضراء، وتأمين الفوائد الاقتصادية للانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون، مع توجيه المؤسسات الداعمة لتنفيذ الاستراتيجية لتمكين التناغم والتآزر بين القطاعات الحيوية، وضمان التنمية المتوازنة مكانيا في عموم أجزاء ومقاطعات المملكة المتحدة.

وعلى الرغم من أنها كانت تصنف خامس أكبر اقتصاد في العالم أثناء إعداد تنفيذ استراتيجية الصناعة الجديدة، إلا أن المملكة المتحدة قد أدركت مسبقا بأن تعريف نطاق التركيز الاستراتيجي في مرحلة ما بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يأتي في مقدمة الأولويات الحاسمة، وأي تغيير في حدود النطاق قد يتسبب في تمدد التركيز إلى ما هو أبعد من محيطه المتوقع، وهذه الحالة تعتبر من المخاطر الجدِّية التي يجب الالتفات إليها في فترة مبكرة قبل أن ينحرف تركيز الاستراتيجية واتجاهاتها، أو يتغير بشكل كلي وعلى نحو غير متوقع.

يعتبر محور تعريف التركيز الاستراتيجي على المدى الطويل من أكبر التحديات التي تواجه المخططين، وبذلك يكاد يكون البعد الغائب في معظم الخطط ذات المدى المتوسط والبعيد، إذ ينعكس تمدد وزحف النطاق في الخطة الاستراتيجية على البرامج التنفيذية والخطط الإجرائية فيما بعد، مما قد يؤدي لتوجيه المشاريع الاستراتيجية لاتجاهات غير مخطط لها، ويعود ذلك إلى غياب التركيز الاستراتيجي والوضوح المطلوب على مستوى الرؤية المستقبلية، مما يفرض على المنفذين إدخال معالجات عديدة لإدارة تغييرات النطاق على مدى فترة تنفيذ الخطة الاستراتيجية، وهذه التدخلات المتواصلة قد تحرف مسار الخطة لاتجاه مختلف، وفي أسوأ السيناريوهات إلى الاتجاه العكسي، ويتسبب كذلك في هدر الموارد والوقت كأبرز تبعيات تمدد نطاق العمل، الذي ما إن يحدث في المستوى التخطيطي حتى يتكرر بشكل فيروسي، وبأشكال ومستويات مختلفة في كل مرة، وهنا يتساءل الكثيرون كيف يبدو زحف أو تمدد النطاق، وكيف يمكن اكتشافه ومعالجته في الوقت المناسب؟ يشير تمدد النطاق إلى التغييرات المستمرة أو النمو غير المنضبط في نطاق التخطيط والتنفيذ، والطريقة المثلى لتقليل أو منع تمدد وزحف النطاق على المستوى الاستراتيجي والتنفيذي هو الفهم الواعي للغاية الكبرى من وضع الخطة الاستراتيجية، والتحديات التي فرضت الاحتياج لهذه الخطة في المقام الأول، ثم التأكد من وضوح الرؤية المستقبلية والأهداف الاستراتيجية للخطة، بما يسمح تعريف مجموعة الركائز الاستراتيجية، التي بدورها تضع حدودا ما لا يقع داخل نطاق الخطة، للحفاظ على نطاق واضح لمدى التنفيذ والمتابعة والتقييم، مع تفعيل نظام فعال لإدارة التغيير القائم على سيناريوهات التدخلات من أجل التكييف السريع من جهة، واكتساب مرونة كافية تسمح بعبور منحنى التحول بأقل الفواقد، وكما يقول المفكر وخبير علم نفس الإنجاز براين تريسي بأن «القُدرة على التّركيز بشكل عقليّ مُنفرد» هو أهم مفاتيح الإنجاز.

إذا عدنا للاستراتيجية الصناعية للمملكة المتحدة نجد أنها تستوفي جميع هذه الخصائص، حيث إن الحاجة للدفع بالصناعة في طليعة التميز العالمي مع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، استوجبت صياغة استراتيجية جديدة تستهدف الوصول إلى المزايا التنافسية الحاسمة في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، فعرَّفت الاستراتيجية الصناعية الحديثة عشر ركائز بدأت بمحور الريادة التكنولوجية في قطاعات الإنتاج الرئيسية، وشملت جميع أركان الصناعة الحديثة المدفوعة بالتكنولوجيا، مع التركيز على تعزيز مكانة بريطانيا كوجهة رائدة للاستثمار في أوروبا وبين دول ​​منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، وكذلك كمركز تنافسي لبدء أو تنمية الأعمال التجارية، ويأتي هذا كله مغايرا للاستراتيجيات السابقة التي اتصفت بالتركيز المهيمن على الصناعات القائمة داخليا والشركات المحلية، فأظهرت هذه الاستراتيجية انفتاحا أكبر بشأن استقطاب المستثمرين والعلماء والمبتكرين والموهوبين، مستفيدة بذلك مما تتمتع به المملكة المتحدة من سجل علمي قوي على مستوى الاكتشافات التكنولوجية، والتطوير التقني المستمر وتوازن بيئة الأعمال.

ومع وجود هذه الاستراتيجية الطموحة بدأت الحكومة بوضع نهج ثابت من السياسات التي تنتهجها خلال مرحلة التنفيذ، ووضعت برنامج عمل دائم مُمكِّن وداعم للقرارات والمؤسسات المعنية بالتنفيذ، بحيث تكون بمثابة القوة الموازية للاستباق والمنطقية في اتخاذ القرارات المهمة، وتوظيف قوة الابتكار المحلية في تحديد التدخلات المستهدفة، في حال طرأت حالة تمدد في نطاق العمل بشكل مفاجئ، خصوصا حينما يتعلق الأمر بإيجاد اقتصاد مرن للتغييرات الناشئة ومواكب لمتطلبات المستقبل، إذ تعتبر حالات تمدد النطاق من بين الأسباب الأكثر شيوعا في فقدان الجدوى الحقيقية للخطط طويلة الأمد، والأمثلة كثيرة وأشهرها تجربة دول العالم في استنساخ المدرسة الفكرية للولايات المتحدة الأمريكية في إنشاء حدائق العلوم والتكنولوجيا.

ظهر الجيل الأول من الحدائق العلمية والتكنولوجية في أوروبا في أوائل السبعينيات في المملكة المتحدة، وتحديدا في جامعة كمبريدج، أي بعد مرور عقد كامل من التجربة الأمريكية، ثم تبعتها كل من جامعات بلجيكا وفرنسا، كانت هذه الحدائق في البداية استنساخا مطابقا لتجربة أمريكا، ثم أخذت المدرسة الأوروبية في تطوير مكونات حدائق العلوم والتكنولوجيا وكذلك فلسفة عملها وآليات بناء الشراكات الاستراتيجية، واضعة بذلك حجر الأساس لظهور الجيل الثاني من مُجمَّعات وحدائق العلوم والتكنولوجيا مطلع الثمانينيات، وسرعان ما انتقلت الفكرة إلى بلدان أخرى خارج قارة أوروبا، وكانت في مقدمتها كندا وسنغافورة وأستراليا، ثم البرازيل والهند والصين واليابان وماليزيا، أما روسيا فلم تتجه نحو إنشاء هذه الحدائق حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، لأن الأهداف الاستراتيجية المرتبطة بإنشائها لم تتلاءم مع توجهات التعليم العالي والصناعة القائمة على المعرفة التكنولوجية آنذاك.

كان الهدف الرئيس من حدائق العلوم والتكنولوجيا سواءً في الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول التي استنسخت الفكرة هو دعم المناطق والمدن والأقاليم التي تعاني من الكساد الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، والمساهمة في النمو الاقتصادي من خلال التجديد في عجلة الصناعة المحلية، وجذب الشركات الجديدة والناشئة وزيادة إنتاجيتها بتعزيز سلسلة القيمة وسلسلة التوريد، مع مرور الوقت اتضحت هذه النجاحات ومعها الكثير من الفوائد الأخرى للاقتصاد المحلي، فقد أثبتت حدائق العلوم بأنها إحدى الوسائل الفعالة لتحفيز ثقافة الابتكار، وتنمية الصناعة والأعمال التجارية القائمة على المعرفة، كما أنها أسست البنية الأساسية والبيئة التشاركية لتشجيع التعاون بين الأكاديميين والباحثين وقطاع الصناعة الذين يغذون اقتصاد المعرفة، وأسهمت إلى حد كبير في توطين المبتكرين والعلماء الشباب في كتلة مكانية تضم العديد من شركاء التنمية، والذي بدوره أسهم في جذب ودعم المواهب العلمية على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي.

بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود من نشأتها كفكر وممارسة ضمن التحول لمجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة، بادرت روسيا بإنشاء الحدائق العلمية كتجربة عمل لسد الفجوة الإنتاجية في الصناعة كثيفة المعرفة، ومع وفرة الخبرات في الممارسات والسياسات إلا أن «الموجة الأولى» من حدائق العلوم الروسية لم تتمكن من تحقيق الإنجازات التي تبلورت في أمريكا وبعض الدول الأوروبية، بسبب غياب التركيز الاستراتيجي وعدم وضوح دور هذه الحدائق العلمية في دعم القطاعات الإنتاجية التي يقوم عليها الاقتصاد، فمعظم المجمعات العلمية والمناطق الصناعية التي توسعت روسيا بإنشائها لم تصمد، وتلاشت من الخريطة المؤسسية الروسية بحلول القرن الحادي والعشرين، كجزء من «الموجة الأولى» تم إنشاء عشرات المجمعات العلمية والصناعية دون تحديد نطاق التنفيذ، إذ لم يكن لدى روسيا استراتيجية واضحة في مجال إنشاء وتطوير الحدائق العلمية والتكنولوجية، وكذلك بسبب ضعف ركائز البنية الأساسية والتمويلية لاستدامة المجمعات العلمية، وبذلك لم تكن الفرصة مواتية لتفعيل وإشراك الحدائق العلمية في قضايا التنمية الاقتصادية الإقليمية والوطنية وإحداث التغيير.

تغير المشهد جذريا في مطلع الألفية الثالثة، وأصبحت «الموجة الثانية» من الحدائق العلمية في روسيا مُمكنة من خلال السياسات الداعمة ضمن منظومة متكاملة للابتكار الوطني، وذلك وفقا لمفهوم التنمية الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل، وبقيادة «استراتيجية التطوير المبتكر»، التي حددت أولويات التطوير العلمي والتكنولوجي الموجه للابتكار حتى عام 2020، ووضعت دعائم التعاون الناجح بين قطاع الأعمال والقطاعات الأكاديمية والبحثية والقطاع الحكومي من أجل إيجاد أساس علمي وتكنولوجي تنافسي للاقتصاد، ومع وضوح نطاق التركيز الاستراتيجي تم تطوير اثنتي عشرة منطقة علمية وصناعية في إطار البرنامج الوطني الشامل الذي سمي «إنشاء الحدائق التكنولوجية في مجال التقنيات العالية»، وبرنامج دعم «التنمية الاقتصادية والاقتصاد المبتكر»، ومع التركيز الاستراتيجي المنهجي تمكنت حدائق العلوم والتكنولوجيا في روسيا من شحن الاقتصاد بالإمكانات التجديدية الابتكارية، وإحداث الأثر الإيجابي في النهوض بالصناعة للوصول إلى المعرفة والتكنولوجيا وتطبيقها، وأسهمت في تحقيق الريادة العلمية في مجالات الأولوية الاستراتيجية.

إن جوهر الاستراتيجية هو اختيار ما لا يجب فعله واستبعاده أولا، ثم تبني نظام تنفيذ مكثف لما يقع داخل النطاق بعملية واعية ومدروسة، لأن الاستراتيجية هي فن صناعة النجاح في المستقبل، بتوجيه التركيز على ما هو مهم ومؤثر، حتى وإن كانت الأهداف قليلة ولكنها قد تكون مصدرا للميزة النسبية، فالقوة المركزة وإن كانت صغيرة هي أجدى نفعا من القوى الكبيرة المشتتة.

د. جميلة الهنائية كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.