كلفة المشكلات الاجتماعية..

27 نوفمبر 2021
27 نوفمبر 2021

تصل المجتمعات إلى نقاش مثمر حول مشكلاتها الاجتماعية متى ما أحسنت مراجعة منهجها في تناول تلك المشكلات ومتى ما توفرت البنية المعلوماتية والمعرفية الممكنة التي يمكن من خلالها بناء تحليلات وتداولات أكثر عمقًا حول هذه المشكلات وأقل تحيزًا وأكثر موضوعية تجاه المساهمة التي تساهم من خلالها وحدات النظام الاجتماعي في مفاقمة المشكلة أو في التأثر بها أو في حلحلتها. وهنا نحن لا نتحدث فقط عن دراسة المشكلات الاجتماعية الدراسة العلمية الأكاديمية تلك التي تجري في الجامعات ومراكز البحث أو عبر الباحثين المتخصصين ولكن نتحدث عن مجمل التداول المجتمعي حول هذه المشكلات سواء كان ذلك عبر وسائط الإعلام المختلفة أو في فضاءات المجتمع المدني أو عبر مختلف المنصات التي تجعل من هذه المشكلة أو تلك مادة للدرس والنقاش والتداول والكتابة.

ولعل أحد المعطيات التي أصبحت حاضرة في تجويد النقاش حول المشكلات الاجتماعية ما يتحدث عنه عالم الاجتماع كينيث ويستوز في مقالته الشهيرة بعنوان: «Social Problems as Systemic Costs» والتي يرصد فيها ثلاثة مناهج تتحدث من خلالها المجتمعات عن مشكلاتها ، الأول يتعامل معها بوصفها «ظواهر لا تتلاءم مع بنية المجتمع المحدد» وهو ما يقتضي وجود صورة واضحة لبنية هذا المجتمع في حالة الاستقرار والتحول ، والثاني يتم تأطيره من خلال ما يمليه الرأي العام أو غالبية الناس ، أما الثالث فهو قياس التكاليف المنهجية للمشكلات. وهذه تقتضي أن نضع إطارًا للمجتمع في حالة المشكلة وفي حالة عدم وجودها ونقيس كمية التكاليف (المؤسسية - التشريعية - النظامية - الصحية - الاجتماعية - الاقتصادية...) التي تكبدها المجتمع بشكل منهجي وقابل للتحديد الكمي والمؤشراتي بعد حدوث المشكلة وانتشارها في سياق المجتمع. ويرى ويستوز أن هذه المسألة قد تكون أقل تحيزًا وأكثر موضوعية تجاه أنماط الثقافة وعناصرها في النظام القائم. وفي تقديرنا فإن هذا التحديد أيضًا يسهم في موازنة المسؤوليات بمعنى تخفيف الحماسة والتحيز تجاه إلقاء اللوم الاجتماعية والمسؤولية المؤسسية على كيانات اجتماعية أو مؤسسات أو سياقات بعينها بوصفها مصدر المشكلة ومسببها دون النظر إلى بنية النظام التكاملية والتعاضد الذي قد يكون واردًا بين مكونات مختلفة أسهمت في تأطير المشكلة ومفاقمتها.

ناقشت دول العالم في 25 نوفمبر السياقات المتصلة بتصاعد مشكلة «العنف ضد المرأة» تزامنًا مع مناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة ، وفي المجتمعات العربية رغم أن هذه المشكلة حفلت بالكثير من النقاشات العمومية إزاء تصاعدها والتحذير من تداعياتها واستنكار بعض الحالات التي تندرج في سياقها إلا أننا نجد أنه نادرًا ما يتم تقديم صورة تفصيلية عن الكلفة المنهجية لهذه المشكلات على بنى النظام الاجتماعي في المجتمع العربي. قد يكون ذلك عائدًا إلى مركزية البيانات والمعلومات في بعض الدول وقد يكون الافتقار إلى البنية المعرفية المتكاملة التي تتأسس عليها المناقشات حاضرًا لكن في تقديرنا فإن محاولة المساهمة في تأطير بعض المؤشرات وبنائها والتأسيس عليها قد يكون خطوة أكثر دقة في سبيل مواجهة مشكلة العنف وغيرها من المشكلات الاجتماعية الأخرى. فعلى سبيل المثال طورت «الإسكوا» مؤخرًا مجموعة من الأدلة والأدبيات في سبيل معاونة الدول لتقدير التكلفة الاقتصادية للعنف ضد المرأة في المنطقة العربية وأوجدت معادلة أولية يمكن من خلالها قياس تلك الكلفة ومفادها أن «التكلفة المالية للعنف ضد المرأة = التكلفة على مستوى الأسرة + تكلفة تقديم الخدمات على مستوى المجتمع + التكلفة للأعمال التجارية» وقدمت معها أدلة استرشادية في سبيل القياس الدقيق لكل جزئية من هذه التفاصيل بما يمكن من فهم تلك الكلفة وفهم المسؤوليات وتحديد التدابير اللازمة للمعالجات على مستوى النظام الاجتماعي ككل.

وما سبق يمكن أن ينسحب في الآن ذاته على مشكلات اجتماعية مختلفة إذا ما أردنا الحديث بشكل منهجي عن مشكلة الطلاق مثلًا وتحديد المسؤوليات والمعالجات التي تقع على عاتق كافة عناصر النظام الاجتماعي في تسبيبه ومعالجاته وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي أصبحت اليوم مقاربات العلوم الاجتماعية أكثر دقة في سياق تحديد كلفتها وأطرافها ذات العلاقة. ولكن لماذا علينا الانتقال إلى البحث في كلفة المشكلات الاجتماعية؟ والجواب بأن ذلك سيسهم في التالي:

- ستكون النقاشات العمومية حول المشكلات الاجتماعية بما فيها التناول الإعلامي أكثر دقة وتحديدًا ومبنيًا على معطيات تفضي بأطراف ذلك النقاش إلى الدفع باتخاذ موقف. قد يكون هذا الموقف مجتمعيا أو مؤسسيا أو إعلاميا.

- تحديد الكلفة الاقتصادية للمشكلة وطبيعة الموارد (الملموسة وغير الملموسة) (المباشرة وغير المباشرة) التي تستنزفها المشكلة وهو ما يقتضي تضافر المعلومات والبيانات من ناحية ووجود نظام متكامل للرصد مع قائمين جديرين على عملية التحليل والربط والمقاربة ليقدموا التشخيص الدقيق لتلك الكلفة وينبهوا إلى الأبعاد الاقتصادية لها.

- تصميم الرسالة التوعوية سيكون كذلك بشكل أدق. فكرة التوعية في تقديرنا هي تحديد (من يجب أن يفعل ماذا وكيف؟) وحين يكون هناك تشخيص للكلفة من كافة أبعادها سيكون الميسر توجيه الرسالة التوعوية بشكل مباشر وبصورة مبتكرة تتجاوز حدود التنبيهات العامة أو التوعية بالأوامر.

- تصعيد الأولويات التشريعية وترتيب التدخلات الإجرائية المناسبة التي يمكن من خلالها حلحلة المشكلة أو الحد من تفاقمها وآثارها بمعنى (من يجب أن يبدأ في فعل ماذا؟) وهو ما سيمكن المؤسسات وخاصة التشريعية من فهم المداخل المناسبة التي يمكن لها من خلالها أن تساهم في علاج التوصية. كما سينبه المؤسسات العمومية إلى أولوية الإجراءات وترتيب الأجندة سواء كان على مستوى السياسات أو البرامج أو على مستوى الموازنات.

تتعمق المشكلات وتستمد جذورها في المجتمعات حين تكون المناقشات العمومية حولها مجرد نقاشات تأملية. وفي تقديرنا فإن توفير آليات رصد وقياس للكلف سيسهم في مراقبة تلك المشكلات بشكل يشبه المراقبة المختبرية وبالتالي سيمكن من تقليص أمد امتدادها والتنبه إلى العلاجات الأنجع المقاومة لها والسياسات الأفضل في سبيل احتوائها وكبح جماح تفشيها.