قوة ناعمة لإصلاح ما أفسد العصر

07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025

القوة الناعمة مصطلح ظهر على يد أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير «جوزيف ناي» عام 1990 معبرا عن قدرة دولة ما على جعل الدول الأخرى تنجذب لنظامها الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي طوعًا لا كرهًا من خلال التأثير في الجماعات والأفراد عن طريق الآداب والفنون، والمؤسسات الثقافية، والسمعة الحسنة للدولة والمجتمع، ومن خلال التعاطي الإيجابي مع المؤسسات الدولية، هي وفقا لـ«ناي»: «أن تجعل الآخرين يريدون ما تريده أنت متعاونين قانعين بلا إكراه أو إغراء» وما زالت تلك القوة السلمية الفاعلة معطلة أو كامنة في كثير من السياقات الدولية، وتعتقد بعض الحكومات أنها مخبأة لأوقات الشدة وتهديد الحروب في حين أنها واجبة التفعيل دائما بناء لجسور تواصل دولية، ووقاية من كثير من التداعيات السياسية التي قد تصل لمواجهات عسكرية.

ولمّا كانت قضية فلسطين (غزة تحديدا) هي قضية إنسانية تقض مضاجع ضمائر أحرار العالم اليوم؛ لمعاناة سكانها المدنيين وأطفالها الأبرياء من عدوان منهجي يستهدف تهجيرا قسريا، وتصفية عرقية تتلبس ثوبي المجاعة والقتل. كان ذلك الاهتمام الإنساني العالمي – متمثلا في الأفراد دون الحكومات- انتصارا لهذه المرحلة من تحول السرديات القديمة إلى سرديات واقعية منطقية عرفت قسوة العدوان المتنفذ كمعرفتها معاناة الإنسان وأساه. ومع هذا التبدل في السرديات انبرت كثير من مؤسسات المجتمع المدني وشعوب العالم لنصرة شعب غزة بكل ما أوتيت من وسائل وأشكال القوة الناعمة التي تصدرتها الآداب والفنون محركة مبادرات إنسانية تسعى لتغيير الواقع المأساوي لشعب واقع تحت قيود الحصار والعدوان معا. ومع يأس هؤلاء الساعين من الحراك العالمي دوليا، واعتقادهم بأن مساعيهم قد لا تصل إلى مبتغاهم في وقف العدوان تماما، لكنهم مؤمنون بأثر القوة الناعمة في بناء قنوات للتواصل، ونوافذ للأمل، ومنصات للتعبير لإيصال حكاية أولئك الذين لا يملكون أصواتهم، وهو ما لوحظ عالميا هذه الأيام مع حدثين تمثلت فيها القوة الناعمة صوتا لا يمكن أن يخفت، وصرخة لا تقبل أن تموت.

«صوت هند رجب» فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية الفائز يوم السبت بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي أثار موجة تأثير عالمية في المهرجان الإيطالي، وذرف الجمهور الدموع متابعا مشاهده، وحظيَ بالتصفيق لثلاث وعشرين دقيقة متواصلة لدى عرضه. قالت كوثر بن هنية -التي صفق لها الحاضرون وقوفا عند استلامها جائزتها- «لا يمكن للسينما إعادة هند إلى الحياة، ومحو الفظائع التي ارتُكبت بحقها»، لكنها «قادرة على حفظ صوتها (...)؛ لأن قصتها ليست لها وحدها، بل هي قصة مأساوية لشعب بأكمله يعاني من إبادة جماعية ترتكبها حكومة إسرائيلية مجرمة متملصة من العقاب.

استندت مخرجة «صوت هند رجب» إلى تسجيلات صوتية حقيقية للمكالمة بين الطفلة البالغة خمس سنوات وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني طلبا للنجدة قبل مقتلها، وعُثر بعد 12 يوما على هند قتيلة داخل سيارة مثقوبة بالرصاص في مدينة غزة كانت فيها مع خالها وزوجته وأبنائهما الثلاثة الذين قتلوا جميعا. ورغم كثافة الأفلام والحضور في هذه الدورة من المهرجان؛ كان لحرب غزة حضور قوي في الموسترا. اتسم افتتاح مهرجان البندقية السينمائي برسالة مفتوحة كتبتها مجموعة «البندقية من أجل فلسطين» التي أسسها عشرة مخرجين إيطاليين مستقلين تدين الحرب في قطاع غزة، وأكد فابيو ماسيمو لوزي ممثلا المجموعة أن «الهدف من الرسالة كان وضع غزة وفلسطين في قلب الاهتمام العام في البندقية. وقد صدق الوعد؛ إذ ترافَق انطلاق المهرجان و مشاركة الآلاف في مظاهرة في شوارع ليدو؛ تضامنا مع الفلسطينيين في قطاع غزة فيما عبّر فنانون عن دعمهم بحملهم شارات ولافتات خلال مرورهم أمام عدسات المصورين على السجادة الحمراء.

بعد صوت هند رجب يأتي صوت مبادرة إنسانية عالمية عبر أسطول الصمود العالمي؛ الأسطول البحري الذي يمثل مبادرة دولية أطلقت يوم 10 يوليو2025؛ لفتح ممر إنساني بحري، وفضح جرائم حرب الإبادة الجماعية، ودعم صمود الفلسطينيين في مواجهة التجويع، يتألف من عشرات السفن الصغيرة التي تحمل ناشطين ومساعدات إنسانية مجسدا تحركا شعبيا عالميا؛ إذ يتكون من 4 تحالفات من مختلف بقاع العالم، وهي «الحركة العالمية نحو غزة»، و«تحالف أسطول الحرية»، و«أسطول الصمود المغاربي» إضافة إلى «مبادرة صمود نوسانتارا» الشرق آسيوية. ويعوّل منظّمو أسطول «صمود» على الزخم الدولي المتصاعد مع استمرار المجازر في غزة آملين وصول المشاركة لخمسين سفينة مدنية تنطلق من موانئ مختلفة وصولا متزامنا لسواحل غزة مراهنين على الضغط الشعبي في الدول الغربية، وعلى تغطية إعلامية أوسع من تلك التي رافقت قوارب سابقة لمّا تضع حمولتها، لكنها وقعت رسالتها كسفينتي «حنظلة» و«مادلين».

يضم الأسطول مؤثرين من 50 دولة، ونوابا أوروبيين، وشخصيات عامة من مختلف دول العالم حاملين مساعدات إنسانية على شكل مواد غذائية وأدوية وحليب أطفال وأطرافا صناعية. من أبرز شخصيات الأسطول السويدية غريتا ثونبيرغ، والممثلة الأميركية الحائزة على الأوسكار سوزان ساراندون، والممثل السويدي غوستاف سكارسغارد، والممثل الأيرلندي ليام كانينغهام، وأستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون الفرنسية فرانكو رومانو، والمؤثرة الأمريكية ومسؤولة الإعلام في الأسطول هانا كلير سميث، ورئيسة بلدية برشلونة السابقة آدا كولاو، والنائبة اليسارية البرتغالية ماريانا مورتاغوا في حين مثّل الوفد الجنوب أفريقي عشرة أشخاص يمثلون تنوع البلاد العرقي والديني والجغرافي، بالإضافة إلى شخص واحد ينضم إلى فريق الدعم القانوني، بينهم نكوسي زويليفيليلي(حفيد نيلسون مانديلا وعضو البرلمان الجنوب أفريقي)، والدكتورة زهيرة سومار الناشطة في حركة التضامن مع فلسطين، والأكاديمي جاريد ساكس، وناشط من «يهود جنوب أفريقيا من أجل فلسطين حرة»، وزوكيسوا وانر الكاتبة والصحفية الحائزة على جوائز، وإلهام معفق هاتفيلد مؤسسة منظمة دعم الإغاثة في الكوارث، والدكتورة فاطمة هندريكس أخصائية العلاج المهني والباحثة، وإرشاد أحمد شوتيا، وفاضل بهرا، ونورين سالوجي، ورياض مولا.

صوتان لتفعيل القوة الناعمة انتصارا للقضايا الإنسانية في العالم سواء بلغا أهدافهما أم لا. صوتان نجحا يقينا في تأكيد قدرة الإنسان بسعيه المدني السلمي عبر الجهود الثقافية على توثيق صوت الحق، والانتصار للقيم الإنسانية سواء بلغ تغيير الواقع ومعاناة البشر أم لا. قوة ناعمة تضع بصمة نطمئن معها أننا ما زلنا على قيد الحياة لمّا نفقد بعد شعورنا بالإنسان قيمة عليا وأهدافا سامية.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية