قوة عربية أوروبية لحماية أسطول الصمود
07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025
مرة أخرى -وقد تكون أخيرة- تقدم ديناميات طوفان الأقصى المذهلة فرصة تاريخية للنظام العربي الرسمي لوقف خذلانه لغزة. الفرصة ليست من صنعه، ولا بمبادرة منه؛ فقد توقف عن الفعل منذ زمن طويل، ولكن جاءته على طبق من ذهب في صورة أسطول الصمود الذي بدأ رحلته فعلا لكسر الحصار على غزة. تحمل سفن وقوارب هذا الأسطول على متنها مشاهير، ونشطاء، وسياسيين، وفنانين، ورموزا من ٤٤ دولة.
الأسطول البحري الذي ربما يكون أكبر أسطول سلمي في التاريخ الحديث ليس حدثا رمزيا، ولكنه حدث سياسي بامتياز ربما يتحول في حال نجاحه في فك الحصار إلى حدث تاريخي يغير في مسارات الحرب ومعادلاتها.
السياق السياسي الذي يتحرك في إطاره الأسطول يختلف عن كل المحاولات السابقة اختلافا جوهريا؛ فهو يأتي في سياق تحولت فيه إسرائيل إلى دولة منبوذة ومكروهة من شعوب العالم خاصة شبابه. بهذا المعنى فإن الأسطول تعبير سياسي عن الضمير العالمي، ورأيه العام، وحركته الشعبية الدولية التي تتلاقى فيها كل الحركات الاجتماعية المعادية للعنصرية والإمبريالية والنيو-ليبرالية التي وحدتها قضية فلسطين العادلة، ووجدت في غزة علما تتوحد تحت رايته مثلما توحدت من قبل ضد حرب فيتنام، وضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا. لقد فعلت المجاعة الجماعية في غزة -وهي جريمة حرب إسرائيلية - ما لم تفعله الإبادة والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل منذ أكثر من ٧٠٠ يوم.
التنوع المذهل في جنسيات الدول والانتقاء الدقيق لكل الفئات عبر قاعدة شملت ٣٥ ألف طلب للمشاركة فيها، فضمت سياسيين وبرلمانيين وعسكريين سابقين مناهضين للحرب والإبادة وناشطين وحقوقيين وفنانين ومؤثرين على وسائل التواصل نساء ورجالا شبابا وكبارا مسلمين ويهودا ومسيحيين وغير متدينين أو ينتمون لديانات غير سماوية. هذا التنوع يصعب إدانته وتشويهه من آلة الدعاية الصهيونية ومؤسسات الإعلام الغربي بأنه تجمع معاد للسامية أو مؤيد للإرهاب. وهذا التنوع يجعل من استهداف مواطني ما يقرب ٥٠ دولة يشاركون في هذا الحدث قضية عالمية بامتياز، وخبرا أولا للكرة الأرضية قد يحتاج الإسرائيليون لإعادة التفكير فيه أكثر من مرة قبل الاعتداء الوحشي عليها كما فعلوا من قبل مع سفن مثل مرمرة وغيرها.
ثم إن عدد ووزن المشاهير الذين انضموا إلى أسطول الصمود لا تقارن بهم أي حملة بحرية سلمية سابقة استهدفت فك الحصار على غزة، ومنهم فنانة حائزة على الأوسكار مثل الأمريكية - اليهودية سوزان ساراندون. وهذا العدد من المشاهير، ودرجة شعبيته الهائلة، واحترام العالم لعملهم ومواقفهم العامة والإنسانية تضيف قيدا جديدا حتى على التأييد الجنوني المطلق الذي تمنحه إدارة ترامب للعدوان الإسرائيلي، وحصار التجويع بما في ذلك خطة احتلال مدينة غزة التي يسكنها ما يقرب من مليون مدني فلسطيني. لن تحتمل إدارة ترامب ثورة «هوليوود» والشعب الأمريكي على خطر اعتداء إسرائيلي يهدد حياة مواطنين أمريكيين منهم رموز لهم محبين ومعجبين بالملايين.
انطلق الأسطول من موانئ تقع على البحر المتوسط مثل برشلونة وجنوة. وستنضم إليه سفن أخرى من موانئ تونس وليبيا وغيرها. وهدف الأسطول النهائي هو بحر غزة الذي هو جزء من حوض المتوسط. وتضم سفن الأسطول مواطنين ومشاهير من جميع الدول الواقعة على ضفتيه الأوروبية والعربية. هنا تقوم الجغرافيا بدورها الحاكم في جمع وانتظام كل العوامل السابقة من «سياق، وتنوع، ومشاهير»؛ لتخلق واقعا جديدا يتمثل في وجود مصلحة عربية -أوروبية في نجاح مهمة الأسطول أو في الحد الأدنى منع إسرائيل من وقفه، وإيذاء المشاركين فيه من مواطني بلدانهم. التطور الجديد الذي فعلته الجغرافيا في صورة حوض المتوسط لأول مرة هو تعهد دول أوروبية بحماية مواطنيها المشاركين بما في ذلك حكومات اتخذت موقفا منحازا لإسرائيل مثل حكومة جورجيا ميلوني الإيطالية اليمينية. فقد تحدت ميلوني تهديدات وزراء الحكومة الإسرائيلية بمصادرة سفن الأسطول، والقبض على المشاركين، وسجنهم في إسرائيل. تعهدت ميلوني بضمان سلامة المشاركين من مواطنيها، واتخاذ جميع التدابير لضمان حمايتهم وسلامتهم. وأعطت أسبانيا مؤشرات مماثلة كما تعهدت نقابات العمال في أكثر من ميناء أوروبي بمنع السفن المتجهة إلى إسرائيل أو القادمة منها من التحميل أو التفريغ في موانيها، وهي كارثة كبرى لصادرات وواردات إسرائيل يصعب على اقتصادها الذي أنهكته الحرب تحملها.
هنا بالتحديد تلوح الفرصة للنظام العربي، وبالتحديد لدوله الواقعة على البحر المتوسط للإقدام على مبادرة سياسية كبيرة، وهي دعوة جميع الدول العربية والأوروبية الواقعة على حوض المتوسط لتكوين قوة بحرية عسكرية مشتركة تبدأ في مرافقة الأسطول لحماية مواطنيهم من الهجوم الإسرائيلي المتوقع على الأسطول لمنعه من الوصول لشاطئ غزة، وكسر الحصار، وإيصال أطنان من الغذاء والدواء لأهل القطاع. هذه القوة المؤقتة بمهمة محددة -وهي حماية أسطول الصمود تنتهي بعده- سيكون من الصعب توقع أن تغامر إسرائيل أو توقع أن تأذن لها أمريكا بدخول مواجهة عسكرية مع وحدات بحرية نحو ٢٧ دولة البعض منها هو من أقرب حلفاء واشنطن. أما لماذا هذه المبادرة ضرورية؛ فلأن السوابق القديمة تقول: إن أسلوب الإسرائيليين أنهم يتقدمون لضرب ومحاصرة السفن القادمة لفك الحصار عندما تقترب من المياه الدولية لشواطئ غزة بنحو ١٠٠ ميل أكثر أو أقل. ومن شأن وجود هذه القوة الدولية المكونة من دول المتوسط العربية والأوروبية هذه المرة منع التدخل العسكري الإسرائيلي، وكشف أنه تدخل غير شرعي متناقض مع القانون الدولي، ومن حق القوة البحرية المتوسطية هنا منع حدوثه، وهي مستندة إلى الشرعية الدولية في مواجهة دولة مارقة.
بعبارة أوضح؛ إن مبادرة عربية تدعو أوروبا لعمل مشترك لحماية مواطنيها المشاركين يتفق تماما مع ما تعهدت به إيطاليا وإسبانيا، ويلزمهم بهذه التعهدات. وهنا تزيد فرص وصول سفن أسطول الصمود أو جزء منها لغزة، والنزول إلى مدن القطاع. وإذا نجحت في ذلك قد يتغير مسار الحرب؛ إذ سيصعب حتى على ترامب أن يواصل إعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو في مواصلة الحرب والقصف بعد أن بات هذا العدد من مواطني ومشاهير العالم موجودا على الأرض في غزة، ومن شأن قصف الإبادة الجماعية الإسرائيلي أن يطولهم، ويدخل العالم في أزمة دولية متعددة الأطراف تكاد تكون غير مسبوقة.
تقدم هذه المبادرة فرصة حقيقية لبعض الدول العربية غير المتوسطية فرصة لتصحيح خطئها التاريخي في التطبيع المجاني والاندماج الإقليمي المجاني لإسرائيل إذا ربطت هذا التطبيع بوقف الحرب، وفك الحصار، والموافقة على إعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة عبر اختبار حقيقي ألا وهو سلامة أسطول الصمود، وعدم الاعتداء الإسرائيلي عليه أو منع وصوله. دول اتفاقات إبراهام تستطيع هنا أن تحول الدعوات الشاحبة التي ظهرت مؤخرا في اجتماع وزراء الخارجية العرب إلى قرار جاد لأول مرة. هذا القرار يكون تجميد هذه الاتفاقات ووقف العمل بها إذا اعتُدي على الأسطول، ومنع من فك الحصار، وواصلت إسرائيل مخطط احتلال مدينة غزة، وواصلت مخطط ضم الضفة الغربية المحتلة.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب صحفي
