قوة الهاتف المحمول

16 سبتمبر 2023
16 سبتمبر 2023

يعد التواصل عبر الهاتف المحمول شريان حياة للمجتمعات؛ فهو لا يرتبط بالفرد في علاقة ترف ورفاه، بل يُنظر إليه باعتباره ضرورة عصرية، وقد أثبتت التجارب والمواقف المتعددة أنه ساعد الكثير من الناس في المناطق المتضررة جرَّاء النزاعات أو الكوارث الطبيعية، إضافة إلى أهميته في تطوير مختلف المجالات التنموية خاصة في الابتكار والتعليم والثقافة، فالهاتف المحمول يمثِّل قوة حديثة لها إمكاناتها التي تنعكس مباشرة على المجتمعات.

يشير تقرير اقتصاد الهاتف المحمول 2023 الصادر عن الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول (GSMA)، إلى أن عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول عام 2022 بلغ 5.4 مليار شخص على مستوى العالم، (بما في ذلك 4.4 مليار شخص استخدموا الإنترنت عبر الهاتف المحمول)، وقد سبَّب ذلك في تراجع فجوة استخدام الإنترنت عبر الهاتف المحمول خلال السنوات الخمس الماضية من 50% في عام 2017 إلى 41% في عام 2022، ولهذا فإن تقنيات الهاتف المحمول وخدماته قد ولَّدت 5% من الناتج المحلي الإجمال العالمي؛ حيث بلغت مساهمته 5.2 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية المضافة، ودعمت 28 مليون وظيفة عبر النظام البيئي المحمول الأوسع، وسيسهم الجيل الخامس 5G في دعم الابتكار والخدمات المتنقلة مستقبلا، بما يزيد من فرص التوظيف والصناعات المساندة – حسب التقرير –.

ومع شيوع مفهوم المواطنة الرقمية فإن الطلب على الهواتف المحمولة يتزايد في ظل ما يشهده العالم من إقبال كبير على زيادة الطلب خاصة بين فئة الناشئة والشباب باعتبارهم مواطنين رقميين لا يستخدمون الهواتف من أجل الاتصال التقليدي والرسائل النصية وحسب، بل بوصفه أداة قادرة على إدارة حياتهم من خلال مجموعة من المعطيات والبرامج التي تطغى على نظام حياتهم خاصة ما يتعلق بالفيديوهات والألعاب؛ حيث يكشف تقرير (GSMA) أن التقديرات تشير إلى أن حركة مرور الفيديوهات في الهاتف المحمول تمثل حوالي 70% من بين جميع حركة بياناته، والتي يُتوقع ارتفاعها إلى 80% في عام 2028، حيث تقوم تقنية الجيل الخامس بدعم ذلك النمو ودفعه.

وتمثل الهواتف المحمولة انعكاسا مهما للتطورات التقنية التي تعتمد عليها الصناعات الحديثة، فاعتماد المواطنة الرقمية على تلك التطورات، دفع إلى دعم توجهات إنترنت الأشياء وتكنولوجيا المعلومات، الأمر الذي جعلها تنمو بشكل متزايد كما يخبرنا تقرير (GSMA)؛ فهي (أول اقتصاد رئيس) على مستوى العالم، حيث يُتوقع أن يستمر إنترنت الأشياء في النمو عام 2023 وما بعده، مع ظهور صيحات جديدة، بما في ذلك السلبية منها، مع وجود أجيال حديثة لأجهزة استشعار إنترنت الأشياء بشكل أصغر وأرخص مقارنة بالأجيال السابقة مثل( NB-IOT و LTE-M)، التي يتم تشغيلها بواسطة موجات الراديو والطاقة الشمسية والرياح والاهتزازات والحرارة – كما جاء في التقرير –.

إن هذه التطورات الهائلة التي تشهدها صناعة الهواتف المحمولة، وما تمثله من قدرات على مستوى التعليم والثقافة والاتصالات والتقنية وبالتالي الاقتصاد، وما يقدمه من خدمات رقمية تعتمد على تقنيات الجيل الخامس في مجالات الترفيه والألعاب والأخبار واللياقة البدنية والشؤون الاجتماعية والرعاية الصحية وغيرها، قد جعل من هذا الجهاز الصغير أداة تحريك لحياة الناس، يعتمدون عليها في تسيير الكثير من الأعمال أثناء العمل، ويستغلون خلالها أوقات فراغهم، بل أنهم يتسوقون ويتواصلون عن طريقها. إنها موطن القوة في الحياة العصرية، فهي أداة ذكية قادرة على توجيه حياة الناس خاصة فئة الناشئة والشباب، بما تقدمه من برامج وخدمات سهَّلت حياتهم ودفعتهم إلى نمط حياة مختلف عن الأنماط التقليدية.

ولهذه الأهمية التي يمثلها الهاتف المحمول في حياة المجتمعات، فإن الاهتمام بتلك المهارات المرتبطة باستخدامه وكيفية التعامل مع خدماته وبرامجه التي تتزايد وتتوسَّع مع تطوُّر التقنيات الإلكترونية من ناحية، وحاجات المجتمعات والتحديات التي تواجهها من ناحية ثانية، لذا فإن التعليم بمختلف مراحله عليه أن يخطط وفقا لتلك التطورات والمتغيرات، ذلك لأن مستقبل التعليم وآفاق التعلُّم مدى الحياة مرتبط ارتباطا وثيقا بالتعلُّم الإلكتروني بشكل عام والتعلُّم عن طريق الهاتف المحمول بشكل خاص، فالأجهزة المحمولة تمثِّل قاعدة أساسية للتعلُّم، وعلى المتعلِّم أن يُحسن التعامل معها، وأن يمتلك المهارات الضرورية التي تمكِّنه من ذلك.

إن التطورات المتسارعة في صناعة الهاتف المحمول وما يواكبه من تزايد في أهميته الاقتصادية والاجتماعية يجعل منه أداة مهمة في تحسين التعلُّم، خاصة من خلال برامج التعلُّم باللعب التي تُسهم في تعزيز مهارات المستقبل مثل حل المشكلات والتفكير الناقد، إضافة إلى تلك المهارات المرتبطة بتحليل المعلومات والبيانات، ومهارات التواصل الفاعل عن طريق البرامج التفاعلية ومختلف برامج الإبداع ، ولهذا فإن نهج التعليم المرتبط بالتقنية والتعلُّم التفاعلي سيمكِّن المتعلمين من تطوير قدراتهم للاستفادة من برامج الهاتف المحمول وخدماته بما يدعم العملية التعليمية من ناحية، ويمكِّنهم من التفاعل الإيجابي مع ما يُبث من بيانات ومعلومات من ناحية أخرى.

ولقد أسهمت المواطنة الرقمية في تعديل الكثير من المفاهيم المغلوطة عن التقنيات وأهميتها في حياة المجتمعات، فعلى الرغم من تلك السلبيات والتحديات التي تواجهنا أثناء التعامل مع برامج التقنية وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي مع انفتاحها وما تقدمه من كم هائل من المعلومات المشتتة، إلاَّ أن الوعي بالمواطنة الرقمية ومفاهيمها وحدود التعامل معها، قد مكَّن الكثير من أفراد المجتمع من مهارات التعامل معها عن طريق التحليل والنقد، ولهذا فإن ارتباط المجتمعات بالهاتف المحمول باعتباره أداة ذكية تمكنه من الوصول إلى تلك البرامج والخدمات، يحتاج دوما إلى فهم عميق لمفاهيم المواطنة الرقمية وقيمها الأخلاقية، ولن يكون ذلك سوى عن طريق إعداد منظومة تعليمية قائمة على مستقبل اتجاهات التعلُّم.

إن اقتصادات الهاتف المحمول وما تمثِّله من قوة تتجه اليوم نحو اعتبارات لا ترتبط بالتعليم والتعلُّم وحسب بل تتعلَّق بمجالات عدة منها السياحة والثقافة؛ حيث تم إيجاد مجموعة من البرامج والتطبيقات التي تسهِّل على السائح الوصول إلى وجهته وتيسِّر عليه وسائل الحصول على أساليب الراحة أو المغامرة أو غير ذلك، من خلال ما تقدمه الدول من خدمات مرتبطة بمجموعة من الأنظمة التقنية التي تنفَّذ عبر الهاتف المحمول بُغية ضمان الوصول إلى المستفيد، ولهذا فإنها تستخدم أشكالا وتصاميم تتوافق مع أهدافها، إضافة إلى تلك البرامج الثقافية والصحية وطرائق عرض كل منها.

وبعيدا عن التطبيقات التقنية وخصوصيتها، فإن جميعها يتخذ مصفوفة تقوم على تحديد الأهداف، والهيكلة التنظيمية، والبدائل، وانسياب التقنية نفسها، إضافة إلى الموثوقية. لذا فإن لغات البرمجة تتخذ من تحسين آفاق مستقبل اقتصادات الهاتف المحمول هدفا لها وفق مجموعة من التقنيات تضمن سهولة ديناميات المحتوى الرقمي واعتماده على الحركة والصوت والتفاعل والمشاركة؛ فكلما زاد عدد المشاركين وتفاعلهم زاد في المقابل نسبة تكرار التجربة وبالتالي تعزيز ميزات تلك الدينامية.

إن الهاتف المحمول يمثل قوة تعلُّم وثقافة غير محدودة إذا ما تم التعامل معه وفق مجموعة من المهارات، وإذا ما استثمرت الدولة فيه ضمن تلك الغايات، ونحن نشهد تطورات هائلة في تطبيقاته وبرامجه على المستوى الدولي، وعلى الرغم من وجود بعض التطبيقات المحلية، إلاَّ أنها ما زالت تحتاج إلى الكثير من الدعم والتمكين حتى تكون لدينا برامج داعمة لمنظومتي التعلُّم والثقافة والتي يمكنها أن تشمل مجموعة كبيرة من التطبيقات في كافة القطاعات.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة