قوة الدولة.. وهشاشة التحديات

27 نوفمبر 2021
27 نوفمبر 2021

إن «الصدمة الاقتصادية ليست مجرد أزمة اقتصادية، والصراع ليس مجرد أزمة أمنية، ولم يكن كوفيد 19 مجرد أزمة صحية». هكذا عبَّرت مقدمة (التقرير السنوي لمؤشر الدول الهشة في العالم لعام 2021م)، الصادر عن منظمة صندوق السلام في الولايات المتحدة الأمريكية (واشنطن)، عن تلك الآفاق التي تفتحها أمامنا التحديات والتغيرات التي يمر بها العالم على كافة الأصعدة، وهي تحديات كشفت عن القدرات الاجتماعية والاقتصادية التي تتأسس عليها الدول، وطاقاتها الاستيعابية وسياساتها في التعامل مع تلك المتغيرات باعتبارها (صدمات)، وبالتالي قدرتها على (منع وإدارة المخاطر) - بحسب التقرير -.

ولهذا فإن التقرير لا يستعرض إجراءات تعامل الدول مع ما يواجهها من متغيرات وتحديات وحسب، بل أيضا يكشف عن مدى استعدادها وقدرتها على التخطيط والتأهب لأي من تلك التحديات؛ حيث يستند إلى بيانات (179) دولة حول العالم لعام 2020 والذي وصفه بأنه (عام غير مسبوق)، وتقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتداعيات كوفيد 19، والكوارث البيئية والصراعات والحروب وغير ذلك، وما سببته من تهديدات على المستوى الصحي والأمني والاستقرار الاجتماعي.

والمتتبع لنتائج تقرير مؤشر (الدول الهشة في العالم 2021) سيجد أن الدول التي تتمتع بتنمية اقتصادية وافرة، وخبرة فنية عالية في إدارة المخاطر، وقدرة على التخطيط الفاعل، هي التي شكَّلت فئات الدول (المستدامة جدا)، و(المستدامة)، و(المستقرة جدا)، و(الأكثر استقرار). بينما تظهر غالبية دول العالم هشة متصدعة، بسبب عدم أو ضعف قدرتها على إدارة الأزمات من ناحية واستقرارها السياسي وبالتالي الاجتماعي من ناحية أخرى، الأمر الذي سينعكس على تفاقم المشكلات الاقتصادية، وبروز التصدعات الأمنية.

يوفر هذا التقرير بيانات كميِّة ونوعيَّة، اعتُمد في جمعها وتحليلها ومراجعتها النقدية على نهج (نظام تقييم النزاعات (CAST)) التابع لصندوق السلام الدولي، واستنادًا إلى (منهجيات العلوم الاجتماعية الشاملة)، وبالتالي فإن هذه البيانات تُقدم تفصيلا عن وضع الدول وإمكاناتها المالية والمؤسسية وقدراتها البشرية والفنية في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي فإنه يوفر مواد لا تقيِّم الواقع الحالي - حسب المدة الزمنية التي شملها التقرير - فقط، بل يقدم إمكانات إحصائية ومعلوماتية تُساعد الدول على التخطيط للمستقبل، وتُسهم في سد الثغرات المتصدعة في أنظمتها سواء أكانت اقتصادية أو صحية أو أمنية، وبالتالي تساعدها على التخطيط الفاعل لتحقيق الاستقرار والصمود.

تُعد سلطنة عُمان بحسب تقرير (مؤشر الدول الهشة في العالم 2021) بين الدول الثلاث الأقل هشاشة على المستوى العربي؛ فقط حصلت على المركز (136) بين الدول الهشة عالميا، وكانت ضمن فئة (الأكثر استقرار)؛ مما يعني أنها من بين الدول التي تمتلك إمكانات اقتصادية ومؤسسية، وقدرات بشرية وفنية، مكَّنتها من التصدي لمجموعة من التحديات أهمها الأزمة الاقتصادية وجائحة كوفيد19. إن ما تميزت به عُمان من صلابة في التصدي وصمود في مواجهة تلك التحديات من ناحية، والتخطيط للعمل على تجاوزها، والإفادة من التجارب لمزيد من الطرق الوقائية من ناحية أخرى، جعلها في مصاف الدول القادرة على تخطي الأزمات، والتعامل بحكمة مع المستجدات، مما كشف عن مرونة الدولة، وقدرتها على التعامل مع المتغيرات المتتابعة التي حدثت خلال عام (غير مسبوق).

ولقد شكَّل نظام التعايش والسلام الذي تعتمده عُمان باعتباره منهاجا للحياة، أحد أهم تلك المؤشرات الذي يكشف النظام الاجتماعي الذي تنتهجه في تأسيس منظومتها الداخلية والخارجية، ولهذا فقد استطاعت أن تؤسس بناءً اجتماعيا قادرا على مواجهة الأزمات والتحديات، إضافة إلى تلك المنظومة الاقتصادية والصحية، التي استطاعت الصمود في وجه كوفيد 19، والمرونة في التعامل مع مستجداتها. الأمر الذي مكَّنها من اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة في كل مرحلة على حدة، بما يحقق استقرارها الاقتصادي والاجتماعي والأمني في أشد مراحل تلك الأزمات.

والحال أن سلطنة عُمان تسعى جاهدة للوصول إلى أعلى مراتب الصمود والمرونة في التعامل مع الأزمات، ولعل ما تم من إجراءات خلال جائحة كوفيد19 على كافة الأصعدة، يُسهم في تطوير القدرات المؤسسية والفنية والبشرية مما يدعم القدرة على التصدي لأية تحديات أو أزمات، إضافة إلى تطوير الجاهزية وحالات التأهب. ولأن عُمان متقدمة في تقرير الدول الهشة في العالم 2021 باعتبارها من الدول (الأكثر استقرار) خاصة على المستوى العربي، فإن ذلك يُعد من المؤشرات المهمة لتمكين القدرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة، الأمر الذي سيؤدي إلى تمكين قطاع الاستثمار بشكل خاص؛ ذلك لأن هذا المؤشر يعتبر من مؤشرات (القوة الناعمة) الداعمة والمحفزة للاقتصاد الوطني، وبالتالي ركيزة أساسية لقوة الدولة ومرونة تشغيل قطاعاتها المختلفة .

ولأن القطاعات الاجتماعية مرتبطة بالمجتمع وثقافته وهُويته، فإن الحفاظ على (الاستقرار) باعتباره شكلا من أشكال التمكين عليه أن يأخذ أبعاد معرفية وقيمية متعلقة بتطوير العمل المؤسسي للمجتمع من خلال تمكين المجتمع المدني، وتنمية الطاقات الشبابية، وتطوير العلاقات بين مختلف قطاعات المجتمع . ولعل تمكين الشباب من أهم مؤشرات الاستقرار والقدرة على الصمود على المستوى الاجتماعي، لأنه يُسهم في دعم إمكانات المجتمع على تخطي الأزمات، وابتكار الحلول، والمرونة في التطوير، وبالتالي الاستدامة التنموية، فالدول القوية اجتماعيا هي تلك التي تستطيع الحفاظ على هُويتها وقيمها في ظل المتغيرات الثقافية التي يشهدها العالم، وما نجده من طغيان الهُويات القوية في مجتمعات الدول الهشة إلاَّ شكلا من أشكال ضعف البنية الاجتماعية وهشاشتها.

قَدَّم (برنامج منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال افريقيا للتنافسية) تحت عنوان (المرونة الاقتصادية في الأوضاع الهشة)، ما تؤديه النزاعات والخلافات الاجتماعية والسياسية من (تكاليف بشرية واجتماعية واقتصادية فادحة)، إضافة إلى التأثيرات الإقليمية والدولية التي تخل بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي؛ فالوعي بمفهوم (الهشاشة) وعلاقته بالأداء الاقتصادي ينبغي أن ينطلق من المستوى الاجتماعي والثقافي للمجتمع، ذلك لأن قوة التنمية الاجتماعية والهُوية الثقافية سيؤدي إلى تأسيس بنية اقتصادية ممكَّنة ومستدامة.

ولهذا فإن برنامج التنافسية يوصي بتقديم تحليلات للأوضاع الاجتماعية والثقافية للمجتمعات بهدف قياس مواطن الهشاشة والقوة وربطها بالاستثمار؛ فالهشاشة (تخلق دورة اقتصادية مفرغة عن طريق خنق الاستثمار الأجنبي والتجارة والنمو الاقتصادي) - بحسب البرنامج -، ولذلك فإن قياس المتغيرات الداخلية والخارجية يُسهم في تطوير الأطر التشريعية من ناحية، وأدوات الاستثمار والترويج من ناحية أخرى، بما يمكِّن الإبداع والابتكار المستدام.

إن تنمية المجتمع واستدامته تتأسس على مصادر طاقته ومكامن قوته، ولهذا فإن تمكين هذه المصادر، يجعل منه مجتمعا قادرا على الاستقرار الداخلي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ويمتلك مرونة اقتصادية من خلال تشغيل مصادر طاقته، وقدرات أبناء مجتمعه، الأمر الذي يمكنه من تقييم أدائه، وتحديد مواطن هشاشته وقوته للعمل على تخطي مراحل الاستقرار إلى الاستدامة المجتمعية.