قلعة الميراني وأخواتها

07 أبريل 2024
07 أبريل 2024

«يـا روعـة المـاضـي البعـيـد المُسْتَسِرِّ المُبهـم

كيف انطلقت من (الغياهب) والعِقَـالِ المُحْكـم؟

أقبلـتِ فـالتفـتَ الزمـانُ تلفّـتَ المُتـوهـمِ

والمـوتُ دونـَكِ واقـفٌ فـي ذلـة المـستـسلـم»

خطرت ببالي هذه الأبيات للشاعر السوري عمر أبو ريشة في احتفائه بمدينة أوغاريت الأثرية التي عرفت أول أبجدية في التاريخ، كيف وقف الشاعر أمام انبعاثها بدهشة وفخر ليكتب قصيدته المتضمنة هذه الأبيات؟! ثم كيف يمكن لغموض الماضي وعراقته تشكيل دهشة الحاضر ولذة التعاطي مع كشف الغياهب وتجلي السر؟ كيف يمكن إعادة تشكيل جماليات المكان التراثي (مهما اختلفت موضوعاته) وفقا لمعطيات الحاضر وممكناته وأساليبه؟ وهل يمكن إنعاش مكان ثابت راسخ الجذور ليلمس وريد الحياة اليومية، ونشاطات البشر الواقعية؟

ما زلت على قناعة بأنه يمكن للحاضر مد جسور وثيقة مع الماضي دون أن يركن أهله للدعة، أو يستسلمون للحادث العريق دون محاولة تحديثه أو بعثه خلقا آخر لا يكتفى معه بالتحسر والاسترجاع، لكن يستعاد معه مجد بدايات ثبات ومقاومة، وخطوط انطلاقات فخر وصمود، وخطوات أولى لتاريخ تليد، لا بأس من تبدل الأدوار مع تبدل القرون والعقود والمتغيرات، بل إن السر هنا في ذكاء إعادة الإحياء وإنعاش المكان، والتصالح مع تاريخية المواقع وسردية الأحداث.

كنت قد كتبت من قبل حول ضرورة العناية بالمواقع الأثرية وإحيائها، ولا يكون ذلك عبر ترميمها وصيانتها وحسب، ولا يتحقق عبر زيارات موسمية رسمية، ولا يكتفى به محلّا لزيارات سياح قلائل، بل يتأتى عبر تفعيل تواصلية هذه المواقع التاريخية برفدها أركانا وزوايا تنشط من حركة الزوار وتعزز مكانتها السياحية المرتبطة بقيمتها التراثية، وقيمة إنسانها الملتصق بها، ومن هنا لا يمكن أن يمر حدث كافتتاح قلعة الميراني التاريخية دون احتفاء بها مبادرة طيبة لاستغلال موقعها الرائع بوابة للبحر، وتسويقا لمكانتها الضاربة في التاريخ مع تبدل الأدوار وتنوع الحقب.

حري بالاحتفاء والكتابة انتقال المواقع الأثرية من صفحات الكتب والزيارة العابرة لأجواء التواصل الإنساني والحراك التفاعلي اليومي، حيث يلمس الزائر التاريخ ويحاوره ويتشارك معه أنشطة يومية تجد مكانها في الذاكرة الفردية، وأماكن في الذاكرة الجمعية.

أما أهمية «الميراني» نقلا عن المصادر التاريخية فإنها قلعة بنيت بشكل برج كبير قبل قدوم البرتغاليين إلى عمان، وفي عام 1588م أعاد البرتغاليون بناء القلعة وذلك على أنقاض المبنى القديم وأضافوا لها منصات للمدافع ومخازن وسكنا للقائد ومكانا للعبادة، وتم توسيع القلعة وإيصالها إلى حجمها الحالي في عهد كل من الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية في القرن الثامن عشر وحفيده السيد سعيد بن سلطان في بداية القرن التاسع عشر، وقد بنى البرتغاليون عند قاعدة صخرة الميراني حوضًا للسفن ومعقلا على مستوى البحر سنة 1019هـ - 1610م وزودوه ببطارية مدافع على مستوى منخفض للحيلولة دون وقوع هجوم من المراكب التي تبحر قرب الشاطئ تحت مستوى المدافع الموجودة في قلعة الميراني.

قلعة الميراني التي كانت مدافعها هي التي تسمح أو تمنع مرور السفن من دخول الميناء، وكانت قطعه المدفعية هي التي رعدت عند شروق الشمس وغروبها، مُعْلمًا السكان بفتح وإغلاق بوابات المدينة، وها هي اليوم تفتح أبوابها للزائرين من كل مكان ممكنة زائرها (الساعي للمعرفة، الباحث عن الجمال) من كثير ليس أقله إطلالتها البحرية الرائعة التي يتطلع زائرها -يقينا -إلى كثيرها متضمنا جماليات المكان من فنون شعبية متصلة بأهلها، وأنشطة حياتية يومية تعكس إنسان هذا المكان بأنشطته وتقاليده في الأزياء والطعام.

ختاما: أهلا بافتتاح الميراني من جديد مع تبدل أدوارها بين منطلق عسكري ثم مزار سياحي ثم معقل عسكري لتقرر اليوم عودة للتواصل الإنساني اليومي الذي نرجو أن يكون دعوة مفتوحة لأخواتها من قلاع وحصون ومواقع أثرية، وقصور عمان التي يرقبها المواطن بحب ويترقبها المقيم والسائح بكل فضول سعيا للمعرفة وإشباعا لفضول الغموض المتصل بالتاريخ وتفاصيله، والمرتبط بالمكان ومعطياته، ورغم ما قد يكون محلا لاتفاق أو اختلاف حول إمكانيات التطوير والتغيير في التصور الحالي فإن المتفق عليه هو أنها خطوة مأمولة رائعة لواقع نطلبه من تفعيل المواقع الأثرية تسويقا ثقافيا، واستثمارا سياحيا.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية