قرارات إجرائية فيما وراء القمة العربية الإسلامية
في مبادئ المنطق هناك تمييز بديهي بين العبارات التي تُسمى بالعبارات الإنشائية، وتلك التي تُسمى بالعبارات الوصفية؛ فالعبارات الإنشائية هي ذلك النوع من الكلام الذي يعبر عن المشاعر والعواطف وأحكامنا الذاتية عمومًا. أما العبارات الوصفية فهي تلك التي تتعلق بواقع ما وبكل إجراء فعلي يتم اتخاذه إزاء هذا الواقع. هذا التمييز لا قيمة له فيما وراء مجال المنطق، أعني أنه لا يسري على مجال التأمل والفن والأدب على سبيل المثال، ولكنه يكون على أهمية قصوى في مجال الحياة والواقع، ومن ذلك كل ما يتعلق بأمور السياسة. وفي ضوء هذا يمكن أن ننظر فيما جرى مؤخرًا في القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الأسبوع الفائت.
القمة العربية الإسلامية التي انعقدت هي القمة الثامنة التي تعتبر الأكبر منذ أحداث السابع من أكتوبر، فما الذي يميز هذه القمة عن غيرها من القمم التي سبقتها ليس فقط فيما بعد أحداث السابع من أكتوبر، وإنما في أية قمة أخرى سابقة؟! لا شك في أن هذه القمة قد برهنت على إمكانية تحقق تعاطف وتشارك عربي إسلامي إزاء التهديدات التي يواجهها العالم العربي والتي بلغت ذروتها في اعتداء إسرائيل على سيادة دولة قطر (ولو بحجة ضرب قادة حماس المجتمعين للتفاوض من أجل السلام!)، وفي إعلانها عن مطامعها في دول الجوار باعتبارها جزءًا من حلم إسرائيل الكبرى التوراتي المزعوم! نعم برهنت القمة على ذلك الشعور بالتعاطف والتآزر إزاء ذلك التهديد غير المسبوق، ولكن القرارات التي تمخضت عنها هذه القمة ظلت كسابقاتها في إطار اللغة أو العبارات الإنشائية (بلغة المنطق): أعني لغة الوعود والشجب والإدانة، حتى إن كانت هذه الإدانة «بأشد العبارات»، وهي تلك الصيغة من العبارات التي سبق أن أشرت إليها بسخرية ضمنية في مقالات سابقة (ومن ذلك على سبيل المثال مقالي بعنوان: «لغة السياسة في عصرنا»)، فليرجع إلى ذلك من يشاء.
لم تعد للغة الشجب والرفض والإدانة مهما بلغت حدتها أية قيمة الآن، ولن نجانب الصواب إذا قلنا: إن هذه اللغة نفسها هي التي تكرس الوضع القائم، وتشجع العدو الصهيوني على المضي في مشروعه العدواني؛ ولذلك فإنه في وقت انعقاد القمة كان العدو يواصل القتل بوحشية في غزة؛ بهدف تهجير الفلسطينيين إلى سيناء قسرًا، وهو التهجير الذي يمكن أن يكون توطئة لاستكمال المشروع الصهيوني. كما أنه في الوقت ذاته سارع وزير الخارجية الأمريكي الصهيوني بزيارة تل أبيب للتأكيد على أن الولايات المتحدة الأمريكية ستواصل دعمها لممارسات إسرائيل العدوانية ضد شعب فلسطين، بما في ذلك سياسة القتل بالتجويع. وليس هناك ما هو أدل على ذلك مما جرى في جلسة مجلس الأمن الأخيرة حينما استخدمت الولايات المتحدة كالعادة حق النقض لإسقاط قرار بإيقاف القيود المشروطة على إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة (وهو ما يعني الإعلان الصريح بأن الإدارة الأمريكية تشارك فعليًّا في هذا القتل بالتجويع!).
هذا الحق في النقض هو «حق غير مشروع» كما سبق أن وصفته في مقال سابق لي بهذه الجريدة الرصينة؛ لأنه حق قد شرعته شريعة الأقوياء المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية؛ ومن ثم فإنه جاء ليكرس السياسات الاستعمارية التي تحقق مصلحة الأقوى، وهو الحق الذي طالما أساءت الولايات المتحدة الأمريكية استخدامه من دون خجل. وبلا خجل في الوقت ذاته؛ لم يجد الوزير الأمريكي غضاضةً في أن يزور أيضًا قطر من باب تطييب الخواطر، والتأكيد على دعم أمريكا لقطر!!
لم يعد هناك معنى للكلام في مواجهة العدوان. ومن الإنصاف القول بأن بعض القادة المجتمعين في القمة قد أكدوا على ضرورة اتخاذ إجراءات عملية، ولكن القمة لم تتمخض عن إجماع على إجراء فعلي في هذا الشأن. ولو أنه قد صدر عن هذه القمة أي قرار باتخاذ إجراء فعلي على الأرض لتغيرت لغة الخطاب السياسي الأمريكي وتبعاته على السياسة الإسرائيلية؛ فالإدارة الأمريكية لن تغير من سياستها إزاء الشرق الأوسط إلا إذا أيقنت أن مصالحها قد أصبحت مهددة، وأن قدرة العرب قد تجاوزت مجال الكلام إلى مجال الفعل. وبطبيعة الحال؛ فإنه من غير المتوقع أن تتفق سبع وخمسون دولة عربية وإسلامية في قمة (غاب عنها معظم زعمائها) على اتخاذ موقف إجرائي موحد؛ لأن بعضًا من هذه الدول لديها مصالح وحسابات معقدة في علاقاتها بالولايات المتحدة، بل بإسرائيل نفسها. ومع ذلك؛ فربما يمكن القول بأن ما تمخضت عنه هذه القمة هو إدراك مكمن الخطر الداهم الذي يتهدد الجميع؛ ومن هنا فقد بدأنا نرى مواقفَ إجرائية تتخذها بعض هذه الدول وفقًا لحساباتها الخاصة.
وهناك موقفان بارزان في هذا الصدد هما: موقف المملكة العربية السعودية التي أبرمت معاهدة تحالف مشترك مع باكستان، وهو ما شكل مصدر رعب للعدو الصهيوني؛ لأن باكستان ليست دولة معادية للكيان الصهيوني وحسب، وإنما هي دولة نووية. الموقف الثاني الذي يرعب العدو الصهيوني هو المناورات العسكرية الضخمة بين مصر وتركيا التي يمكن أن تكون تمهيدًا لتحالف عسكري مشترك، وهو الأمر الذي طالما طالبنا به، وبات الآن ممكنًا. والواقع أن مثل هذا التحالف (الذي يمكن أن تنضم إليه إيران لاحقًا)- هو ما يمكن أن يشكل قوة الردع الحقيقية للكيان الصهيوني ولمشروعه برمته؛ لأنه سيكون مدعومًا بعقيدة الجيش المصري، وبإيمان جموع المصريين بأن إسرائيل هي العدو الاستراتيجي للأمة العربية.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
