قاطرة ومقطورة.. إشكالية التابع
من أكثر الإسقاطات على الواقع؛ هو إسقاط مفهوم "القاطرة والمقطورة" واتخاذ هذه الصورة منهجا متعدد الاستخدامات والممارسات المباشرة في حياة الناس، وإن عده البعض أن مفهوم "القاطرة والمقطورة" هو مفهوم سياسي بحت، إلا أن مجمل الممارسات التي تحدث على الواقع؛ سواء أن هذا الواقع: سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، أو ثقافي، لن يخلو من هذه الصورة التي تتجلى فيها سياسة (التابع والمتبوع) وهو ذات المفهوم الذي تحمله صورة "القاطرة والمقطورة" واختلاف المسمى لا يغير من المعنى فهو واضح جليا، لا يحتاج إلى كثير العناء في فهمه، مع النظر أن للمسألة جذور تاريخية، وليست وليدة عصر دون آخر، فحالة "التابع والمتبوع" حالة نعايش تفاصيلها، وتموضوعاتها منذ وعينا النسبي بالحياة، ومن النادر جدا جدا، أن يكون لدى فرد ما استقلاليته المطلقة في الحياة التي يعيشها، إذن؛ ولأن الأمر كذلك، فحالة "التابع والمتبوع" حالة متجذرة، وستظل كذلك لاعتبارات كثيرة، ليس اجتماعية فقط، وإنما ضرورة حتمية للبقاء، والاستمرار، ولمجموعة من المفاضلات عندما نقع في موقف الاختيار والتفضيل بين شيئين، أو أكثر، حيث ننحاز إلى خيار ثاني لأن هناك من يقود القاطرة نحو ذلك.
لماذا القاطرة إذن؟ هي مكون بنيوي في علاقات التبادل غير المتكافئة؛ أحيانا؛ بين الأفراد أو المجموعات، ومعنى ذلك أنه لا يجوز "موضوعيا" أن تنشأ علاقة ما، دون أن يكون لها "قاطرة" حتى ينظر إلى شرعيتها، وإلا لساد الحياة نوع من فوضى العلاقات التي تؤصل مجموعة التفاهمات بين المكونات: الاجتماعية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية؛ ولعل هذه الأخيرة أهميتها الخاصة لأن تكون هناك "قاطرة" (فاسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون) وإن المسألة جيرت نتيجة مغالطات كثيرة خاصة في المسألة الدينية، وفي قول أبو الأسود الدؤلي ما يشير إلى في هذا الجانب:
"لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة
لمعشر بلغوا الأمر الذي كادوا
إذن هنا ضرورة وجودية، وليست المسألة اختيارية، أو مفاضلة بين أمرين، يمكن للفرد أن يعمل منفردا عن آخر، فهو استحقاق إذن، ولأن الأمر كذلك نرى في تجارب كثيرة في بلدان عديدة، تلك الفوضى العارمة من فقدان القاطرة، وأن هناك قاطرات بديلة تكرس التفرقة، والتشتت، وتذهب بالمجتمعات إلى نهايات هي ذاتها غير مستقرة، وغير محدودة الأفق، ومن يدفع ثمن ذلك هو الجميع، لأن المركب يفتقد أهم دفة فيه، وهي الدفة التي تصوب مساراته واتجاهاته نحو المآلات الآمنة.
تسجل إشكالية التابع – غير المتكافئة - مع المتبوع أحد أهم المواقف الناتجة من العلاقة التبعية بين الطرفين، ويبقى المتضرر الأكبر من ذلك هو التابع، فالمتبوع، وبحكم السيطرة المباشرة، وغير المباشرة، يظل في المنأ عن أي اخفاقات، أو تداعيات، لأنه يخطط وينفذ برؤية واعية، بخلاف التابع الذي يجري وراءه مغمض العينين، مسلم كامل الأمر والإرادة للمتبوع؛ ربما؛ لمصالح آنية، لا ترقى لكل هذا الاستسلام المفرط في تقدير نتائجه، مع اليقين الدائم أن المتبوع مهما عمر طويلا، ومهما مارس ظلما وعدوانا كثيرا، فسيظل كل ذلك مرهون بوقت محدد، لا يلبث أن تظهر قاطرات جديدة على الساحة لتقود الدفة إلى عالم آخر قد يكون مناقضا لما كان عليه النهج في مرحلة ماضية، فتبدل القاطرات أمر مفروغ منه، بحكم الظروف، والأسباب غير المستقرة في الحياة اليومية، وهذا ما يدعو الفرد؛ سواء في موقفه الخاص، أو في موقفه في المجموعة التي ينتمي إليها أن لا يكون رهين قاطرة بعينها، بقدر ما يحافظ على استقلاليته، واعتماده على مختلف القوى التي تحيده عن الآخرين، ومفهوم القاطرة هنا، لا يرتبط؛ مطلقا؛ بالمجموع، وإنما بالفرد أيضا، في مجمل تموضعاتها اليومية، وهناك لحظات تاريخية في حياة الشعوب، هذه اللحظات من شأنها أن تعيد ترتيب تسلسل القاطرات، فتوقف هذه، وتسمح بأخرى، وذلك كله مرتهن بوعي الفرد، وقدرته على التفريق بين الخطأ والصواب، وحنكته في إدارة شؤونه دون تدخل من أي طرف، مهما كان قوته، وتأثيره، ولا يوجد في الحياة من لا يملك معززات قوته، وإرادته، وإن تخذله الحكمة في بعض المواقف، فليس معنى ذلك أن يسلم أمره لتابع وبعين مغمضة.
من الأسئلة المطروحة في هذا السياق: ما هي الظروف التي تجعلك "تبيع السمك في قرية الصيادين"؟ وهل القاطرات البديلة تعمد إلى توظيف هذه الصورة عندما تحل بديلا في المجتمعات؟ الواقع يقول: نعم؛ وبيع السمك في قرية الصيادين هو إشاعة الخوف في النفوس، وأن القاطرة البديلة هي من سوف يبدد الخوف الآتي، حتى تصل المجتمعات إلى مرحلة عدم القدرة على اعتمادها على ذاتها، وعلى مجمل الإمكانيات التي تملكها بين يديها، فتسلمها راضية مطمئنة لهذا المتبوع الجديد، فالمهم أن تعيش، وما عدا ذلك فـ "ليذهب الجميع إلى الجحيم" وهذه من الإشكاليات الموضوعية في تأرجح العلاقة بين الأنظمة السياسية، وبين الشعوب، طبعا من حق المجتمعات أن تبحث لها عن مخارج لمشاكلها وقضاياها؛ خاصة الجوهرية منها؛ ومن حقها أن تعقد صفقات من تبادل المصالح مع أي طرف آخر، لكن ذلك لا يجب أن يكون على حسابات المحددات السيادية للأوطان، وفي مقدمتها اللحمة الاجتماعية المتماسكة، لأنها الرهان الأقوى لبقاء الأوطان واستمرارها، وقوتها، وتفاعلها، فكل الرهانات تسقط، وتضمحل، وتتوارها مع عدا هذه القوة البشرية الجبارة، التي إن أعطيت لها الفرصة لتوظيف طاقاتها، وإبداعاتها، وأتيحت لإرهاصاتها أن تثمر عن منتج ما يعبر عن حقيقة المواطنة، فإنها؛ بلا شك؛ ستعطي بسخاء، فللأوطان خصوصياتها في إعادة إنتاج القوى الفاعلة بما يعكس الإعداد الجيد، لها، وتهيئة لها الفرص الماكنة للإبداع والتميز، وكما يقول أحدهم: "همتي همة ملوك: ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا"ولنأخذ العبرة اليوم مما يدور حولنا من تبدل وتململ القاطرات؛ فسبحان الله مغير الأحوال.
تنبئ بعض الإشكاليات المطروحة في فهم "القاطرة والمقطورة" في عدة محاور؛ يأتي في مقدمتها:
أولا: العوامل البنيوية المعززة للقيادة، وللبناء، وللاستمرار، وهذه المعززات تتوزع بين القوة البشرية المؤهلة في أي مجتمع، وبين ما يمتلكه الوطن من موارد اقتصادية؛ طبيعية ومصنعة، وبين ما يملكه النظام السياسي من قرار مستقل غير خاضع لأية مساومات سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، فأي ارتباك في هذه العوامل؛ هو ما يجعل قاطرات أخرى تدخل في قيادة المقطورة، وهذه القاطرات لن تأتي لسواد الأعين، بقدر ما تبحث عن مصالحها في خضم الارتباكات التي تحدث، ومتى قدر لقاطرات آتية من البعيد لقيادة الدفة، تقع الأوطان في مأزق التجاذبات السياسية؛ حيث الاحتلال المباشر وغير المباشر، وحيث شلل القرار السياسي والاقتصادي، والاجتماعي، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة، والارتهان على سياسية القاطرة البديلة، واستغلال الثروات، وغياب برامج التنمية، ونمو الاحتقانات الاجتماعية، والبحث المستمر عن منقذ ولا بطريقة فيها الإساءة إلى الأوطان.
ثانيا: نمو الفئات ذات المصالح الخاصة (النخب والعائلات الاقتصادية والسياسية) على حساب المصلحة العامة؛ من خلال تشكيل لوبيات صغيرة تناصر بعضها بعضا، مستغلة بذلك ضعف البنية القانونية، حيث لا يهمها إلا خدمة مصالحها الخاصة، بغض النظر لما يؤول إليه الحال بالنسبة للمجتمع ككل، وهذه هي من يضع أقدام الوطن على مسارات القاطرات البديلة، لتحقيق أهدافها الخاصة.
ثالثا: انزواء المؤسسة التشريعية عن القيام بكامل أدوارها المنوطة إليها من قبل الجمهور العريض التي أولاها الثقة لتجسير العلاقة مع المؤسسة التنفيذية، بل وسقوط أعضاء هذه المؤسسة في مستنقع النخب السالفة الذاكر.
رابعا: غياب مجمل التعاقدات الاجتماعية؛ التي يفترض؛ في الغالب؛ أنها تعوض مجموعة المفقودات التي تتجاوزها المؤسسة التنفيذية نظرا لتنفيذ برامج التنمية الكبرى، ذات الحمولة الشاملة؛ كما هو معروف، وهذا الغياب ناتج عن عدم قدرة أعضاء مؤسسات المجتمع المدني عن القيام بكامل أدوارهم، نظرا لانسياقهم وهرولتهم في متون القاطرة البديلة، لذات الهدف، وهو البحث عن مصالح خاصة أيضا.
