في هوية رمضان

22 مارس 2023
22 مارس 2023

يستدعي رمضان في ذاكرة الأمة الإسلامية هوية جمعية تتمثل فيها مشاعر المسلمين أحوالا مخصوصة تعكس ارتباطهم بعبادة الصوم على نحو يستدعي الكثير من قيم المشاركة الوجدانية اجتماعيا وشعائريا.

الشعور الجمعي برمضان، واستحضار الماضي والذكريات، عادة ما يشكل عند المسلمين مشاعر إيجابية خيرة، فرمضان في ذاكرة الأمة هو شهر الخير، وهو أيضا شهر العبادة والقرب من الله بعبادة الصوم وما يرتبط بها من طاعات أخرى كقراءة القرآن وقيام الليل.

استحضار أجواء رمضان وطقوسه التي تتلون في تفاصيلها بهوية المجتمعات الإسلامية في بلدان مترامية الأطراف، تعكس إحدى أهم خصائص الهوية العبادية للأمة، وهي خاصية الوحدة في التنوع والعكس، ففي الوقت الذي تعكس المجتمعات الإسلامية انفعالها برمضان تتشكل خصائص لكل مجتمع تختلف اختلافا بهذه الدرجة أو تلك، لاسيما وأن الطقس الروحي والجماعي لرمضان يرتبط بتوقيت واحد في عادات الأكل والشرب، لكنه في الوقت ذاته يعكس تنوعا في طبيعة الأكل والشرب وأنواعهما.

ثمة إحساس إيجابي مطلق ومجمع عليه في اعتقاد المسلمين أن رمضان هو استثناء زمني تتغير به الطبيعة الروحية للمسلم تغيرا إيجابيا بهذه الدرجة أو تلك، وتتجه بشعور زائد نحو التحقق بأنواع مختلفة من العبادات، وعلى رأسها عبادة الصوم التي ترتقي بذلك الشعور إلى أن يكون شعورا جمعيا متساميا، ولا يكاد يشذ عنه أحد في حياة الناس. ففي هذا الشهر إذ يستشعر المسلم قربا أكثر من الله، فإن الطقس الجماعي لهذا الشعور والمظهر الموحد له في شكل عبادة الصوم، والتقاليد التي تتغير بها مواقيت الأكل والشرب وعادات النوم وفقا للتغير الروحي العام الذي يطرأ على حياة الناس، كلها أحاسيس موحدة للهوية الجمعية التي تنتظم استجابة المسلمين لعاداتهم الطقوسية والعبادية في هذا الشهر الكريم.

ولعل الصفة التي تعرّف هذا الشهر بمعنى مختصر يتواطأ عليه جميع المسلمين إلى درجة تكون فيها صيغة التحية صيغةً واحدة في عبارة: «رمضان كريم» في كل بلاد المسلمين هي التكثيف المعبر عن هوية هذا الشهر، ففي هذا الشهر الذي يغمر فيه المسلمين والمسلمات إحساس روحي يستشعر معه الناس أن ثمة تغيرا حتى في أجواء الطبيعة يستجيب لطبيعة رمضان، عبر روائح المأكولات والمشروبات الرمضانية المخصوصة والمتعددة بتعدد المجتمعات والشعوب المسلمة.

لطالما ظل رمضان في الإحساس الجمعي للمسلمين عنصر قوة في هويتهم، يستشعرون معه طاقة روحية عالية تمكنهم من التسامي حتى في أحلك أحوال ضعفهم، وهذا في تقديرنا تأكيد بأن الطبيعة الروحية الأولى لهذا الشهر في ذاكرة المسلمين التاريخية هي انعكاس للحظة تأسيسية كبرى وقوية عبَّرت عن الشعور الجمعي الأول للمسلمين بهوية رمضان الأولى في عصر الصحابة، وهي لحظة لا تزال حتى الآن تمنح ذلك الإحساس المتجدد للمسلمين باستعادة فائض القوة الروحية لرمضان.

إن القوة الروحية للمسلمين وإحساسهم الجمعي برمضان على ذلك النحو المعظم هي العلامة السماوية التي تؤكد أن ما يتجلى في يوميات المسلمين طوال هذا الشهر الكريم طبيعة كريمة ونفحة علوية تجعلهم على ذلك الإحساس من السمو والقرب من الله.

لقد عبرت الأدبيات التاريخية لذاكرة رمضان في حياة المسلمين عبر القرون عن هذه الحقيقة الروحية لرمضان وعززت طبيعة القوة الكامنة في إحساسهم بهذا الشعور على مر العصور.

يمنحنا رمضان، شعورا جمعيا كريما ومتساميا عبر أيامه الثلاثين. وفائض الكرم الذي يغمر مشاعر الناس وأرواحهم لشهر كامل هو أمر غريب وذو دلالة على الأصل السماوي والطبيعة الروحية المعبرة عن هذه العبادة.

معنى الكرم الذي يتوفر على معان كثيرة في دلالاته على رمضان هو الوصف الحصري الذي يليق بقيمة هذا الشهر. فرمضان كريم ونفيس في الزمان، ولهذا فإن ثلاثين يوما من الإحساس بالسمو الروحي والتعالي الإنساني والمشاعر المتسامحة هي بالضرورة مقدمة للفرح الذي سيعقب هذه المناسبة الكريمة للشهر، فعيد رمضان هو أيضا علامة أخرى من علامات القوة الروحية للمسلمين لا يتغير الإحساس الجمعي بها حتى في أحلك لحظات الضعف، لهذا يأتي العيد ليعكس حقيقة الإنجاز الروحي للتحقق بالقيم السامية لشهر رمضان. فإذا كان رمضان وأيامه الثلاثون موسما سنويا للانتصار على النفس والسمو بالروح والإحساس بالقيم العليا للعبادة، فإن الفرح في العيد هو المكافأة السعيدة لأيام رمضان.