في سردية الحرب

01 يونيو 2023
01 يونيو 2023

في الحرب، يخوض المتحاربون وقادتهم بدايات الحرب وهم يتأولون أوهاما وينتظرون نصرا يتيما، لكنه نصر محتمل، بين طرفين تترتب أسبابه على كثير من احتمالات الحرب؛ استعداداتها، خططها، جنونها، ونهاياتها المأساوية لأحد الطرفين.

في كل حرب يتحقق الخراب بمعنييه: سفك الدماء والفساد، أي خروج منظومات الحياة عن وظائفها المفيدة ودخولها في العطب.

ولعل أكبر أوهام الحرب تلك التي يظن فيها القادة أن النصر صبر ساعة، فيما كل ساعة من فوضى الحرب ستعني هدما لأنظمة حياة ستستغرق إعادة بنائها وردها إلى طبيعتها الأولى التي تم تدميرها في ساعة، شهورا وسنوات من الإصلاح والتجديد.

في الحرب تختبر الأيديولوجيا والأوهام وعواطف الحرب جيشانا لإرادات البشر على نحو يؤدي بهم إلى الهلاك دون أي شعور بخوف فردي متحقق، فتفضي بهم إلى العطب فيما هم يتوهمون الأماني بغنائم الحرب وأنفالها.

تندلع الحرب بحماسها، وأسوأ نماذج الحماس الحربي هو في تلك الحرب التي تندلع بين الإخوة الأعداء، لأن بداية الحرب هنا لن يكون لها أي سبب سوى إرادة وهمية للانتصار تتأسس بدواعي الالتفاف على ألف وسيلة ممكنة للسلم، لكن نهايتها لا يملكها أحد!

فحرب الإخوة الأعداء، كالتي تندلع اليوم في السودان، هي حرب لا تعكس حتى الهوية العادية لضروب الحرب الأهلية، التي شهد السودان طرفا منها في تاريخه القديم والحديث.

إنها حرب عبثية في صميمها، وللمفارقة فقد صرح أحد قادة الحرب السودانية اليوم (قائد الجيش عبدالفتاح البرهان) للقنوات الفضائية بصريح العبارة حين وصف الحرب التي يخوضها ضد قائد قوات الدعم السريع بأنها حرب عبثية! لنجد أنفسنا أمام معنى مزدوج للمأساة والملهاة في أشد صورها عنفا وعبثية!؟

كيف يخوض الحرب طرفان في المدينة يدركان تماما أن خوض حرب في عاصمة مثلثة للسودان يقطنه قرابة العشرة ملايين هو جنون محقق، ومع ذلك يخوضون فصولا من ذلك الجنون بأوهام انتصار مستحيلة؟

لا تلتفت الحرب إلى الوراء إلا حينما يدركها اللهاث فتستيقظ نشوة العنف والجنون على خراب يعيد السودان والعباد لقرون من التخلف والتأخر.

فالحرب الأهلية العبثية -كالتي يخوضها الفرقاء اليوم في السودان- بوصفها إدارة للعنف ستعني تغييبا للعقل في أهم وظائفه السياسية؛ إدارة الاختلاف بين البشر بالحوار السلمي، لكن متى ما استيقظ قادة الحروب من جنونهم سيجدون ثمة مسافات ضوئية وخرابا مديدا نزح بهم عن نقطة الإمكان التي كان يمكن البناء عليها عشية اندلاع الحرب.

ففي مثل هذه الحرب التي يخوضها الفرقاء المتشاكسون في الخرطوم يصح تأويل المثل الصيني الذي يقول: «إذا كنت لا تعرف إلى أين تتجه، فإنك أيضا لا تعرف متى تصل»؟ لا تقترب الحرب الدائرة اليوم بين الجيش والدعم السريع من أي تأويل عقلاني، فهي ليست حربا يمكن أن يتعقلها حتى العقل العسكري الذي يدير معاركه في الحروب الكلاسيكية بإرادة ورؤية محتملة للنصر، لكن إدارة حرب في مدينة يقطنها عشرة ملايين وهي عاصمة السودان هي ضرب من الجنون العاري الذي يطلق عنفا مميتا وبلا أفق.

مهما ظن الذين أطلقوا الرصاصة الأولى في هذه الحرب أنها حرب لا تكلفهم إلا ساعات يتم فيها الحسم، نعتقد أن ذلك الظن سيوردهم موارد الهلاك الحصري، ليس فقط لسوء التقدير -الذي هو طبيعة محتملة لنتائج الحرب- بل للأوهام الغبية التي يظن معها قادة الحرب إمكانية لإطلاق جنونها بين قوتين في المدينة يتجاوز عدد كل واحدة منها المائة ألف، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها بعد ساعات!

لعل الحرب هي الأمر الوحيد الذي ينطوي على وجود ظاهر للألم والحزن بين البشر في مفرداتها وتفاصيلها، حتى وإن كانت حربا عادلة في أهدافها المؤدية إلى حلول عادلة وأحوال صالحة للحياة، لهذا وصف القرآن القتال بأنه «كره» أي أمر تكرهه النفس، مع إمكانية أن ينجم عنه خير في نهاية المطاف، إذا كانت الحرب عادلة.

لقد كانت الحرب الأهلية الأمريكية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من أفراد الشعب الأمريكي في ستينيات القرن التاسع عشر، حربا عادلة في عنوانها الذي قام على الحرب من أجل الوحدة، وفي تفاصيل أسبابها التي كشفت عن إصرار الولايات الجنوبية على رفض إلغاء تجارة الرقيق. ومع أن عاقبة الحرب عادت بالخير على أمريكا إلا أن مفرداتها ويومياتها هي بالتأكيد مفردات للموت والألم والحزن والجنون لا محالة!