في العودة للمسألة القيمية

07 يناير 2023
07 يناير 2023

يأخذ الحديث عن المسألة القيمية في المجتمع العُماني حيزًا يتنامى يومًا بعد يوم في خارطة الفضاء العام، يأتي ذلك مدفوعًا بثلاثة عوامل رئيسية: أولها التأكيد المستمر من القيادة السياسية على ضرورة التنبه إلى محددات (الحفاظ على البعد القيمي – ضرورة التمسك بأصل الهوية العُمانية – التأكيد على ثوابت عملية التنشئة الاجتماعية وأهمية حفاظها على مكونها المقبول والمعقول في سياق التركيبة المجتمعية). وهذا العامل يأخذ فحواه من تنبيه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – أيده الله – في عدة مناسبات على ذلك. أما العامل الآخر فهو الإفرازات الملموسة التي يشهدها المجتمع نتيجة نشوء بعض الظواهر وظهور أشكال جرمية وتوسع النقاش حولها وما تفرزه مساحات التواصل الافتراضي من أنماط جديدة للشخصيات في تعاطيها المجتمعي، مما ينذر بضرورة مراجعة التركيبة القيمية التي تتأسس عليها هذه الإفرازات والتدقيق فيها ومعرفة الدور المفقود في عمل المؤسسات الناظمة لعملية التنشئة الاجتماعية. أما العامل الثالث فهو يتصل بمدى إدراك واستيعاب الفاعلين الاجتماعيين للتغيرات التقنية والفتح التواصلي غير المحدود بما يحمله من مضامين وقيم ومحتوى (مداهم/ متسارع/ معقد) يجعل من مسألة (الفلترة المجتمعية) عصية على التعامل معه.

في نماذجها بشأن التوقعات لعام 2023 تتوقع منصة استشراف المستقبل Quantumrun Foresight أن يكون 80٪ من الناس على وجه الأرض لهم حضور رقمي على الإنترنت، وأن 90٪ من سكان العالم سيكون لديهم حاسوب عملاق في جيوبهم، وأن 10٪ من نظارات القراءة سيتم توصيلها بالإنترنت. فما الذي يعنيه كل ذلك؟ إن ذلك يعني أن ملايين البشر خلال اللحظة يتدافعون لتصدير قيمهم واتجاهاتهم وتفضيلاتهم ومشاعرهم وأفكارهم ومعارفهم ورؤاهم ونظرتهم للعالم وقناعاتهم ومدركاتهم تجاه كل لحظة يعيشونها وتجاه كل ما يطرأ على نسق حياتهم وتجاه كل ما يدخل في حيز إدراكهم أو في حيز مخيالهم. وإن ذلك كله يعني إعادة نسج قيمي يحدُث باستمرار وموجات متواصلة تحاول هدم قيم معينة وتصعيد قيم أخرى. وقد تكون القيمة التي يراد ترويجها وتصعيدها (مقصودة) أو (غير مقصودة) بالضرورة. ولكن نشوء القيمة إنما هو في حقيقته نتاج لسيادة تفضيلات معينة على حساب تفضيلات أخرى. فالقيم كما يُعرفها هوفشاد: "اعتقادات عامة، تحدد الصواب من الخطأ، والأشياء المفضلة من غير المفضلة". وإن كان "المُكون المجتمعي" المستمد من ناتج التاريخ والدين والحضارة والثقافة وما اتفقت عليه الأجيال هو من يفترض أن يحدد شكل وطبيعة تلك القيم، فإن هذا المكون اليوم أصبح في ذاته معرضًا للكثير من العوامل الهدامة التي تتيحها ثورة الإعلام والتواصل تجعل قدرته على انتاج القيمة في مسارات مربكة.

في تقديرنا فإن أولى مقتضيات العمل على المسألة القيمية اليوم هو تحديد طبيعة هواجسنا، وتشخيصها بشكل علمي ودقيق، والأهم بشكل مؤسسي تآزري، ومن هنا فإن مجتمع الباحثين والأكاديميين والمثقفين مدعو اليوم لتشريح المسألة القيمية ومراجعتها لنحدد إجابات دقيقية على أسئلة من قبيل: ما هي القيم التي يجب أن تكون في أولوية ما نخشى عليه؟ ما الذي يساهم حقًا في تهديد تلك القيم؟ هل النسق المجتمعي العام مدرك لحقيقة تغير القيم ومصادر ذلك التغير؟ أين تكمن الفجوات المؤسسية الحقيقية في مراجعة المسألة القيمية؟ من أين يبدأ العمل المؤثر والفاعل في الحفاظ على التركيبة القيمية؟. نجري حاليًا دراسة حول: "وجهات النظر المتغيرة للأسر العُمانية بشأن دور مواقع التواصل الاجتماعي في إعادة تشكيل أنساق التربية في المجتمع العُماني" ومن النتائج (الأولية) التي تكشف عنها أدوات الدراسة أن أكبر تأثيرين تعتقد بهما الأسر العُمانية لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي هما: (تقليصها لمساحة الحوار الأسري – وزيادة التفاعل بين الأبناء والآخر من خارج السياق في مقابل تفاعلهم مع محيط الأسرة). فعلى سبيل المثال هذه نتائج قد تكشف المصادر الأكثر تأثيرًا في بناء القيمة الاجتماعية وتنبهنا إلى إعادة التأمل في خارطة الأدوار للمؤسسات الاجتماعية الأكثر أولوية في معالجة هذه المسألة.

وفي قناعتنا فإن الإبقاء على "المُكون المجتمعي" بصفته ناظمًا للقيم الاجتماعية والقيم العامة يتطلب الانتاج والتعميم الذكي لهذا المكون. فإن كانت حقيقة الفتوحات الاتصالية هي تدافع للمحتوى وتأثير تلك الفتوحات إنما هو في ذكاء تصميم وتصدير وتسويق ذلك المحتوى، فإن جزء من القدرة على المواجهة هو في الكيفية التي نعمم بها المفاهيم الأساسية المتصلة بالهوية والثقافة والقيم الاجتماعية العُمانية في صيغة محتوى تواصلي سواء كان عبر وسائل الإعلام بشقها التقليدي أو وسائل الإعلام الجديدة مع ضرورة أن تجد موقعها أيضًا في فضاء التواصل العالمي وشريطة أن تكون مصممة للتعاطي مع إنسان متغير. فعلى سبيل المثال تكشف الدراسات المرتبطة بتأثير الوسائط الرقمية أن "المحتوى الرقمي أمامه في المتوسط (7-10) ثوانٍ فقط ليكون قادرًا على جذب الجماهير والاحتفاظ بهم. وإذا لم يكن محتوى الوسائط جذابًا للمستخدمين، فسينتقلون بسرعة إلى مواقع أخرى". هذه سمة من سمات الإنسان المتغير، ويضاف إليها الكثير من التحيزات الإدراكية والمعرفية التي أصبحت تتعاظم وتوجه اعتقاد وسلوك الكائن البشري في عالمنا. هذا يعني أن الدعوة لوسائل الإعلام وصانعي المحتوى لتفعيل أدوارهم معالجة المسألة القيمية يجب أن تكون مدركة لتلك الحقائق وقادرة على انتاج محتوى إبداعي يتفاعل مع طبيعة إنسان اليوم المتغيرة.

هناك دورين نعتقد أيضًا بأهميتهما في العودة للمسألة القيمية – ضمن مجموعة أدوار يصعب حصرها – الأول في تفعيل الإعلام والصحافة الاستقصائية إزاء التغيرات والتحولات والمشكلات الاجتماعية، وأن تأخذ سياقها الجاد والحقيقي القائم على تقصي أسباب التغيرات والتحولات والمشكلات وتقديم رؤية جادة لمعالجتها وتعميق مساحات الحوار حولها. وخاصة في الشق الأسري. ونعتقد أن هناك مساحة مفقودة للبرامج المعنية بالقضايا الأسرية، ونتحدث عن القضايا الأسرية على وجه التحديد وليس فقط تلك البرامج التي تفرغ مساحة من ضمن سياقها لتناول مشكلة اجتماعية أو ظاهرة اجتماعية عارضة. أما الدور الآخر الذي نشير إليه فهو لمؤسسات المجتمع المدني، فهذه المؤسسات بحكم تعاملها مع قطاع واسع من المجتمع سواء (عمريًا أو فئويًا أو مهنيًا) أمامها دور كبير في معالجة المسألة القيمية عبر مبادرات (ابتكارية) تستهدف حملات أو برامج أو أنشطة متخصصة وذكية في الوصول إلى المجتمع. ويمكن هنا إيجاد برنامج (منافسة) بين هذه الفئات في مستوى الابتكار في حملاتها المخصصة للإسهام في نقاش والتنبيه إلى المسألة القيمية شريطة أن تكون تلك الحملات (وطنية – محددة بمستهدفات واضحة – قابلة لقياس أثرها – مُبتكرة في رسائلها).

وفي سياق الاتجاه نحو تمكين مكاتب المحافظين من وصول أكبر للمجتمع المحلي وملامسة أوسع لاحتياجات وهواجس المجتمعات المحلية. يمكن أن تتبنى هذه المكاتب في تقديرنا برامج لدعم الشباب لانتاج المحتوى التفاعلي والذكي حول المسائل المرتبطة بالقيم والهوية والثقافة العُمانية. وأن تخصص مسارًا واضحًا لانتاج وتعميم وتسويق ذلك المحتوى شريطة أن يكون إبداعيًا ومتسقًا مع الهدف العام بإثراء ومضاعفة المادة الإعلامية حول المكون المجتمعي. إن العودة إلى المسألة القيمية تقتضي أن ترتبط كافة أوجه حياتنا في الانتاج والتواصل والتفاعل والمشاركة بالمكون المجتمعي المتوازن، وأن يكون انخراطنا الإيجابي في العالم وتفاعلنا مع متغيراته متنبهًا للقيم المتدافعة والصاعدة والمخاتلة.