في الدفاع عن المنافع العامة العالمية

25 يوليو 2022
25 يوليو 2022

حققت قمة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي استضافتها مدريد الشهر الماضي نجاحا باهرا، مما أثبت عزم الغرب الثابت على التصدي للرئيس الروسي فلاديمير بوتن بشأن الحرب على أوكرانيا. ولكن قيمة الوحدة الغربية ضد بوتن مصيرها إلى زوال في عالَـم أصبح منقسما على نحو متزايد، كما أظهرت اجتماعات وزراء مالية وخارجية مجموعة العشرين الأخيرة في إندونيسيا. قد يحمل هذا الاتجاه تكاليف باهظة إلى حد لا يمكن معه حسابها، لأن العالم الشديد الاستقطاب عاجز عن الوفاء بالمهمة الأكثر أهمية في قرننا هذا: ضمان توفير المنافع العامة العالمية.

مثل هذه المنافع ــ بما في ذلك البيئة النظيفة، والأمن الدولي، والصحة العالمية ــ من غير الممكن أن تتوفر في غياب مؤسسات عالمية فَـعّـالة. قد يتوقع المرء أن تؤدي أزمة ذات عواقب عالمية كبرى إلى تحفيز التعاون، كما كانت الحال مع ظهور مجموعة العشرين بعد الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008. ولكن في حين قد يكون للأزمات تأثير مُـوَحِّـد، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا تعطل الجهود المبذولة لإدارة عواقبها العالمية. جلبت العولمة إنجازات عظيمة للبشرية. لكنها جلبت أيضا مخاطر وتحديات جديدة، والتي لا يمكن إدارتها إلا من خلال مؤسسات تعددية فعالة. كما لاحظ نائب وزير الخارجية الأمريكية السابق ستروب تالبوت في عام 2001، بعد فترة وجيزة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة، فإن "العولمة مثل الجاذبية. إنها ليست سياسة؛ وهي ليست برنامجا. إنها ليست خيرا؛ وهي ليست شرا. إنها تحدث فحسب". ولكن كما أثبت العقد الأخير، حتى لو كانت العولمة ظاهرة تاريخية لا مفر منها، فإن المنافسات الجيوسياسية من الممكن أن تعمل على كسر وتفتيت المؤسسات التي تعتمد عليها، مما يجعل من المستحيل تنظيم استجابات فعالة للتحديات المشتركة مثل تغير المناخ. إن ملاحقة الأجندة العالمية مسعى لا يتوافق مع الاقتصاد العالمي المفتت. وبالفعل، أصبح بعض الانفصال الاقتصادي جاريا الآن. نتيجة لهذا، تضاعف الخطر الجهازي الأكثر أهمية الذي يواجه العالم: التحول إلى "مسارين للعولمة"، أحدهما يدور في فلك الولايات المتحدة، والآخر في فلك الصين. وإذا اكتمل هذا الانفصال، ستصبح المؤسسات المتعددة الأطراف التي جرى إنشاؤها لإدارة العولمة عتيقة مهجورة. لكن الاقتصاد مجرد بداية. إذ أن الحرب في أوكرانيا تعمل على تعزيز الرواية التي تزعم أن الصراع الإيديولوجي الحتمي بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية بات مترسخا بالفعل. إذا ساد هذا التصور، فسوف ينقسم العالم حتما إلى تكتلات جيوسياسية. سيكون هذا مأساة تحل بالجنوب العالمي بشكل خاص. ستواجه بلدان الجنوب العالمي اختيارا مصيريا بين كتلتين جيوسياسيتين استبعاديتين على نحو متبادل. ولكن بصرف النظر عن أي الكتلتين قد تختار هذه البلدان، ستظل المشكلات العالمية مستعصية على الإدارة ــ ناهيك عن الحل ــ بدون الكتلة الأخرى. بعد عقود من الزمن من السعي وراء تأكيد سيادتها قبل كل شيء، تجد البلدان النامية أن أكبر التهديدات التي تواجهها ــ من الجوائح إلى انعدام الأمن الغذائي ــ لا تتأثر بانتماءاتها وصِـلاتها الجيوسياسية.

مع ذلك، ينبغي لنا أن نتذكر أن هذه الـصِـلات ليست بالكتلة الديمقراطية في عموم الأمر. ينظر أغلب العالم بعدم اكتراث ــ وبشك غالبا ــ إلى التدابير القوية التي يتخذها الغرب ضد الحرب في اوكرانيا. على سبيل المثال، بينما تعمل أوروبا على التقليل من اعتمادها على الطاقة الروسية، تزيد الهند بشكل كبير من مشترياتها من النفط الروسي وبأسعار مخفضة.

على النقيض من الغرب، لا ينظر الجنوب العالمي إلى حرب أوكرانيا من منظور وجودي. بل يمثل هذا الصراع في المقام الأول تفاقم نقص الغذاء وارتفاع أسعار الطاقة. وحتى الأزمة في سريلانكا، على سبيل المثال، لا يمكن تفسيرها من خلال منظور التطورات المحلية فحسب. إذ تظل الاتكالية المتبادلة تشكل إحدى سِـمات النظام الدولي المركزية القوية.

في عالَـم متنوع ثقافيا وسياسيا، لا تُـعَـد الإقصائية الديمقراطية الوسيلة الأكثر فعالية لبناء الجسور ــ وخاصة مع أولئك الذين لا تُـلبى احتياجاتهم المادية المباشرة. من هذا المنظور، لا تسدي الدول الغربية نفسها صنيعا من خلال ترك الانطباع بأن المنتديات التي تعقدها هي في الأساس "قمم ديمقراطية ".

النهج الأفضل يجب أن يدرك أن الانقسام العالمي الأشد تأثيرا اليوم ليس بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، بل بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. وقد أبرزت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) هذا الانقسام بوضوح شديد. في سبتمبر من عام 2021، كان ما يزيد قليلا عن 3% من سكان البلدان المنخفضة الدخل تلقوا جرعة واحدة من اللقاح على الأقل، مقارنة بأكثر من 60% في البلدان المرتفعة الدخل.

ورغم أن أسوأ مراحل الجائحة مرت وانتهت، فإن استياء الجنوب العالمي إزاء اكتناز اللقاح في الغرب يظل باقيا. إذا فشل الشمال في نقل حِـس أكبر بالإلحاح في ما يتصل بضرورة تعزيز المنافع العامة العالمية، فسوف تتفاقم حالة الاستياء هذه. بطبيعة الحال، سَـتُـفـضي التوترات مع روسيا إلى تعقيد الجهود التي تبذلها المنظمات المتعددة الأطراف للتوصل إلى اتفاقيات بشأن التحديات المشتركة. لكنها لا تحول دون التعاون. كان هذا واضحا في الاجتماع الوزاري الذي نظمته منظمة التجارة العالمية الشهر الماضي، حيث توصل المجتمعون إلى العديد من الاتفاقيات الـقَـيّـمة.

على سبيل المثال، تستطيع البلدان المؤهلة الآن تجاوز براءات الاختراع لإنتاج وتوريد لقاحات كوفيد-19. من المفيد هنا أن نُـذَكِّـر أنفسنا بالسبب والغرض وراء العقوبات المفروضة على روسيا. لم يفرض الغرب عقوبات على نظام بوتن لمجرد أنه لا يفي بمعيار بعينه من معايير الديمقراطية. بل تشكل هذه التدابير ردا على القرار الذي اتخذه بوتن بانتهاك المبدأ ــ الأساسي في القانون الدولي ــ الذي ينص على أن حدود أي دولة مستقلة ذات سيادة لا يجوز تغييرها بالقوة. طوال القسم الأعظم من حياتي، كانت الشكوك المتبادلة ــ وفي بعض الأحيان، كما هي الحال الآن، العداء الصريح ــ هي التي تحدد هيئة العلاقات بين الغرب وروسيا. لن يتغير هذا لفترة طويلة.

الآن، ينبغي لنا أن نتصدى لبوتن. ولكن يتعين علينا أيضا أن نمد أيادينا إلى الجنوب العالمي، من خلال بذل كل الجهود الممكنة للحفاظ على المؤسسات التي تشكل ضرورة أساسية لحماية المنافع العامة التي نعتمد عليها جميعا.

خافيير سولانا الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية.

خدمة بروجيكت سنديكيت