فلسفة الحرب وأخلاقياتها (1)

01 مارس 2022
01 مارس 2022

لا يمكن لإنسان عاقل أن يغفل عن تأمل الحرب التي اشتعلت مؤخرًا في أوكرانيا، من حيث مشروعيتها ومدى تأثيرها على السلم والأمن الدوليين. ذلك أن هذه الحرب الدائرة الآن ليست مجرد حرب بين روسيا وأوكرانيا، وإنما هي حرب بين قوى دولية عظمى تحاول كل منها إعادة تشكيل موازين القوة في عالمنا الراهن. وهذا يعني أن أوكرانيا ليست سوى مجرد ساحة أو حلبة جديدة للصراع بين هذه القوى، وهو صراع لا بد أن تمتد تأثيراته السياسية والاقتصادية على سائر الدول والشعوب. أظن أن هذا هو جوهر المشكلة في عمقها، وهو ما يدعونا إلى التأمل في مشروعية ظاهرة الحرب وأخلاقياتها، وإلى أي مدى يمكن تقنينها من الناحية السياسية.

تأمُّل ظاهرة الحرب لم ينقطع منذ البدايات الأولى للتفلسف، فهو حاضر بقوة في فلسفة القدماء، وفي فلسفة المحدثين لدى هوبز وهيجل، وفي فلسفة المعاصرين، خاصةً لدى كارل فون كلاوزِﭬﻴﺘﺲ Clausewitz. ولعل أبسط تعريف للحرب هو أنها حل للنزاع بين الأعداء أو الخصوم بالقوة العسكرية، حينما لا يكون هناك سبيل آخر لحل النزاع. ومع ذلك، فإننا يمكن أن نحذف الشطر الثاني من هذه العبارة؛ لأن هناك من الفلاسفة من يرون أن الحرب ظاهرة متأصلة في الطبيعة البشرية: فالعدوان عند هوبز- على سبيل المثال- لا يحتاج إلى تبرير؛ لأنه متأصل في غريزة البشر التي تدفعهم إلى الحفاظ على حياتهم ومصالحهم في مواجهة الآخرين؛ ولهذا فإنه يؤكد على قول القدماء: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" homo homoni lupus، فذلك هو الأصل في "حالة الطبيعة" state of nature، وهي الحالة السابقة على نشأة الدولة أو المجتمع السياسي pre-political state. وربما يفسر هذا أيضًا تعريف كلاوزِﭬﻴﺘﺲ للحرب بأنها "عمل عدواني يستهدف إخضاع العدو لإرادة المعتدي". وعلى هذا يمكن القول بأن نشأة المجتمع السياسي كان ضرورة للتطور البشري في سعيه إلى تحجيم غريزة العدوان،

بناءً على هذا، فإننا لا يمكن أن نقنع بما ذهب إليه بعض المفكرين وعلماء الاجتماع من القول بأن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه؛ ببساطة لأنه ليس اجتماعيًّا بل عدوانيًّا بطبيعته؛ ولكنه- بما وهبه الله من عقل يميزه عن سائر الحيوانات الأخرى- أدرك أن غريزة العدوان المتأصلة في طبعه لن تجلب عليه سوى الخراب والدمار إن لم تخضع للتقنين، وهذا هو الأصل في نشأة الدول والحكومات والمؤسسات الدولية، بل هو الأصل في نشأة المواثيق والعهود التي من دونها سوف تصبح حالة البشر هي "حالة حرب الجميع ضد الجميع". حالة السلم هي حالة ضرورية لبقاء البشر، تتيح لهم التفرغ للقيام على شؤون تحضرهم ورفاهتهم، ولعل أول معاهدة مكتوبة عن السلم هي تلك المعاهدة المعروفة بين فرعون مصر (رمسيس الثاني) وملك الحيثيين. ومن هنا أيضًا يمكن أن نفهم دعوة الفيلسوف العظيم كانط منذ أكثر من قرنين (في سنة 1795) حينما أكد في كتابه "مشروع للسلام الدائم" على ضرورة إنشاء حلف دائم بين الدول من أجل حمايتها من الحروب وضمان أمنها في مواجهة كل اعتداء خارجي. ولقد تحقق حلم كانط بنشأة الأحلاف والمؤسسات الدولية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن حلم كانط لم يتحقق كاملًا؛ لأن الشروط الأخلاقية الضرورية والمنطقية التي كان يطالب بها لم تتحقق كاملة في مواثيق هذه المؤسسات، ويكفي أن نذكر في الصدد- على سبيل المثال- أن مجلس الأمن الدولي المنوط به حفظ السلم والأمن الدوليين قد جعل لبعض القوى العظمى حق نقض القرارات التي تتخذها الدول الأعضاء، وبذلك فإن ميثاق هذا المجلس يكرس سياسة هيمنة القوي على الضعيف؛ ومن ثم يكرس شيئًا من روح العدوان أو- على الأقل- إمكان نقض إدانة العدوان استنادًا إلى مشروعية قانونية دولية! يحدث هذا من حين إلى آخر، وهو ما شاهدناه مؤخرًا في عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار بشأن اعتداء روسيا على سيادة دولة أوكرانيا، حتى إن كانت هناك مبررات لروسيا في القيام بهذا العدوان. والواقع أن اعتداء روسيا على أوكرانيا هو شر وأذى، ولكنه شر لا يخلو من فائدة على المستوى الكوني أو العالمي إذا نظرنا إليه باعتباره شروعًا في خلق عالم جديد متعدد الأقطاب تتواجد فيه بقوة روسيا والصين خصوصًا في مواجهة القطب الأمريكي المهيمن وحليفه الأوروبي فيما بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك أن تعدد القوى يكسر سياسات هيمنة القطب الواحد، ويُوجِد مساحة للاختلافات والتوازنات التي تصب في النهاية في مصلحة الشعوب والأمم الضعيفة، وهو ما يحدث من باب "دفع الناس بعضهم ببعض" إذا جاز لنا أن نستخدم لغة القرآن البليغة في هذا الصدد.

العالم الآن في حاجة لأن يعيد صياغة مواثيق مؤسساته الدولية العظمى في إطار قوانين ومواثيق مُلزمة، تراعي في المقام الأول مصالح الدول، لا مصالح الدول المهيمنة. وليست هذه التأملات سوى محاولة للتنويه إلى ضرورة إعادة تأسيس المعايير الأخلاقية للمؤسسات الدولية الحاكمة وتوسيع نطاق صلاحيتها في مواجهة غريزة العدوان. ولعلها يمكن أن تصبح دعوة تتبناها الدول الضعيفة المهمشة من خلال الضغط السياسي، ولعلها تصبح في النهاية مجرد صرخة في البرية.

• سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة