فرانشيسكا ألبانيزي... امرأة بألف رجل
في الوقت الذي اختفى فيه صوت الحق والعدالة، وتنتهك بشكل يومي حقوق الإنسان، والضرب بمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ونصوصه عرض الحائط في فلسطين وتحديدًا في غزة؛ انبرت امرأة حقوقية تحمل من الشجاعة والإنسانية والكرامة ما لا يحمله الكثير من الرجال وتحديدًا الساسة، -وهي المحامية والأكاديمية الإيطالية فرانشيسكا ألبانيزي- لقول الحق في هذا العالم الذي يُدار بنظام شريعة الغاب؛ يفترس فيه القوي الضعيف.
وقد انتُخبت فرانشيسكا ألبانيزي في مايو من عام ٢٠٢٢م مقررة خاصة للأمم المتحدة معنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧م. وكما هو معلوم أن مقرري الأمم المتحدة الخاصين المعنيين بحقوق الإنسان يعينون من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وبالمرور سريعًا على السيرة الذاتية لهذه المرأة الشجاعة؛ نجد أنها ولدت في عام ١٩٧٧م في مدينة أريانو إريبينو، الواقعة في جنوب إيطاليا.
وتحمل درجة البكالوريوس في القانون مع مرتبة الشرف من جامعة بيزا الإيطالية، ودرجة الماجستير في حقوق الإنسان من مدرسة الدراسات الشرقية في لندن. وهي تكمل حاليًّا دراسة الدكتوراه في القانون الدولي للاجئين في كلية الحقوق بجامعة أمستردام. وقد عملت ألبانيزي باحثة منتسبة في معهد دراسة الهجرة الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، ومستشارة أولى بشأن الهجرة والتهجير القسري في مؤسسة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (غير ربحية)، وزميلة أبحاث في المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية بجامعة إيراسموس روتردام. وقد ألّفت ألبانيزي كتابًا في عام ٢٠٢٠م بمشاركة أحد زملائها حول اللاجئين الفلسطينيين.
وقد عملت كذلك لمدة عشر سنوات كخبير في مجال حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، بما في ذلك العمل في مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وقد أصدرت ألبانيزي -بحكم منصبها- عدة تقارير وثقت فيها بالأدلة الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الكيان الصهيوني المحتل بحق الفلسطينيين في غزة منذ أكتوبر ٢٠٢٣م، وكذلك الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي في الضفة الغربية. وفي أحدث تقاريرها الصادر قبل عدة أيام والذي تسبب في الغضب العلني لواشنطن والصامت للدول الغربية الفاعلة؛ أشارت بكل وضوح إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يندى لها جبين الإنسانية الذي يمارسها قادة الكيان الصهيوني وجيشه المجرم ضد المدنيين العزل في قطاع غزة.
واتهمت ألبانيزي في هذا التقرير أكثر من ٦٠ شركة عالمية متخصصة في مجالات عدة أهمها مجالات التسليح والتكنولوجيا بدعم العمليات العسكرية الإجرامية في غزة، وانتهاك حقوق الإنسان، وإنشاء المستوطنات في الضفة الغربية. وجاء في تقریرها أن الشركات المعنیة وبینها «لوكهید مارتن»، و«لیوناردو»، و«أتربیلر»، و«إتش دي هیونداي»، إلی جانب عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل «Google»، وأمازون «Amazon»، ومايكروسوفت «Microsoft»، وعدد من البنوك الدولية، كبنك باركليز «Barclays»، وبنك باريبا- تزود الكيان الصهيوني بالأسلحة، وأدوات تكنولوجية وبرمجيات، وتسهم في مراقبة الفلسطينيين، واستهدافهم وهدم منازلهم. لقد فضح هذا التقرير هذه الدول وهذه الشركات الكبرى.
وأكد بما لا يدع مجالا للشك مشاركتها الكيان الصهيوني في تنفيذ عمليات الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب الجارية في قطاع غزة، وانتهاكات حقوق الإنسان، ومشاريع الاستيطان في الضفة الغربية. لقد تسبب هذا التقرير المهني الصادق والشجاع في رد فعل أمريكي عنيف، وهذا ما بينه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في حسابه عبر منصة إكس بتاريخ ٩ يوليو الجاري: «الیوم ا فرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان فرانشیسكا ألبانیزي؛ لجهودها غیر الشرعیة والمخزیة لحث المحكمة الجنائیة الدولیة على التحرك ضد مسؤولین وشركات ومدیرین تنفیذیین أمریكیین وإسرائیلیین». وأضاف روبیو: «لا تسامح بعد الآن مع حملة ألبانیزي من حرب سیاسیة واقتصادیة على الولایات المتحدة وإسرائیل».
لقد دعت هذه الحقوقية الشجاعة في أكثر من موقع -ومن واقع معايشتها لما يحدث في قطاع غزة والضفة الغربية- العالم إلى اتخاذ إجراءات جادة لوقف ما يقوم به الكيان الصهيوني من جرائم في غزة، لدرجة أنها دعت في نوفمبر من العام المنصرم ٢٠٢٤م إلى تعليق عضوية الكيان الصهيوني «إسرائيل» في الأمم المتحدة؛ بسبب جرائم الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم، وانتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في قطاع غزة.
وفي الوقت الذي صمت فيه العالم طالبت ألبانیزي في حسابها على منصة إكس حكومات إيطاليا وفرنسا واليونان بتوضيح سبب توفيرها المجال الجوي والممر الآمن لبنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية أثناء سفره لواشنطن، وإنه يتعين على هذه الدول اعتقاله في ضوء إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ ٢١ نوفمبر من عام ٢٠٢٤م مذكرة اعتقال بتهم ارتكابه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
لقد أثبتت ألبانیزي أن الشجاعة ليست مرتبطة بجنس أو ديانة أو عرق، فها هي تواجه لوحدها عُتاة المجرمين في العالم، في الوقت الذي جبن فيه كبار القضاة في محكمة العدل الدولية عن إصدار حكم في الدعوى المرفوعة لديها من قبل جنوب أفريقيا بتاريخ ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٣م، والذي تتهم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة.
والأمر نفسه ينطبق على قضاة المحكمة الجنائية الدولية في الدعاوى المنظورة أمامها منذ عام؛ لقيام نتنياهو ووزير دفاعه جالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالرغم من كل الشواهد والأدلة التي لا تخطئها العين، والتي يعلمها القاصي والداني، ويراها الصغير قبل الكبير في هذا العالم المتوحش. لقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي في بيته الشهير «رتب الشجاعة في الرجال جلائل... وأجلهن شجاعة الآراء»؛ فلم تخش الحقوقية الشجاعة ألبانیزي من تبعات صدقها ومهنيتها، وهي تعلم أن هذه الدول وهذه الجهات ستتعرض لها ولمستقبلها بكل سوء.
لكنها آثرت أن تكون شاهدة للتاريخ على ما يحدث من جرائم، وتفضح مرتكبيها، لا أن تصمت كما فعل النظام الرسمي العربي، ومن يدعي التحضر من الغرب. حقًا إنها امرأة بألف رجل.
