فتيل شعبي فرنسي بشعلة نائل
يضج العالم بأخبار كلها تعكس عجز الساسة عالميا عن إحكام قبضة العدالة بعيدا عن تحكم الرأسمالية وتسلّط التجار، خصوصا إذا ما توافق هؤلاء وأولئك أو أنهم صاروا كيانا واحدا إذ كل سياسي اقتصادي والعكس صحيح، وهنا يمكن لأي ظاهرة سلبية كالعنصرية أن تطفو على السطح مع كل أزمة اقتصادية أو مع أي تراكمات اجتماعية، حتى مع كل تنظير المؤسسات المحليّة والعالمية حول انتهاء ومحاربة هذه الظواهر مع دعوات للتوافق والاندماج والبعد عن فوقية الأكثريات على حساب الأقليات التي لا تلبث أن تسحب بساط السلطة من صنّاعها ومسوقيها لتتبدل الأدوار وتختلط المصالح.
العنصرية المقيتة سواء كانت عرقية أو دينية أو اجتماعية تقضي بمفاضلة غير عادلة وبتهميش وإقصاء مقصودين لطرف ما لحساب طرف آخر، تشاء بعض السلطات السياسية استبقاء هذه الورقة سلاحا شعبيا حيّا متى ما أرادت استخدامه كلعبة إلهاء عن قضايا كبرى أو أزمات حقيقية، لكن يحدث في أحيان كثيرة أن ينقلب السحر على الساحر؛ فتحرق هذه الورقة ضمانات السلطة في قدرتها على التحكم في زرّ التوقف متى شاءت حينما تتجاوز الظاهرة سطحية الفكرة إلى أعماق غضب شعبي متراكم لأسباب مختلفة ستكون العنصرية أضعفها ربما.
حديث اليوم عن فرنسا وقبضة اليد الغاضبة التي انتشرت في مظاهرات شوارع فرنسا وضواحيها بعد مقتل نائل (الصبي الفرنسي من أصول جزائرية والذي يبلغ من العمر 17 عاما) برصاص شرطي في نانتير الثلاثاء الماضي، قبضة اليد الغاضبة ظهرت في حادث مماثل قبل سنوات في أمريكا مع تعرض الشرطة لجورج فلويد (46 عاما) بشبهة الاحتيال، وأثناء توقيفه أقدم شرطي على وضع ركبته على عنق فلويد وهو رهن الاعتقال منبطحا على بطنه ليصرخ الرجل «لا أستطيع التنفس» مفارقا الحياة، وتشتعل بموته مظاهرات وأعمال تخريب عامة منددة بتصرف الشرطي، رافعة قبضة اليد الغاضبة علامة احتجاج وتمرد.
مقتل نائل كان سببا ظاهريا لانفجار غضب متراكم لسنوات ولأزمات مختلفة تعيشها فرنسا مؤخرا، بين تداعيات الأزمة الاقتصادية وعدم ملاءمة أساليب علاجها للشارع الفرنسي كما حدث قبل سنوات من مظاهرات قانون التقاعد أو مظاهرات أصحاب السترات الصفراء قبلها، وبين هموم الضواحي وأطراف المدن الفرنسية مع التهميش والعنصرية، ثم هموم الشباب من الأحداث خصوصا حين نجد بأن معظم المتظاهرين والمتسببين بأعمال العنف والتخريب كانوا ضمن هذه الفئة العمرية التي لا تتجاوز الثامنة عشرة.
لكن ذلك لا يلغي انضمام الكثير من الفئات الأخرى لهذه الانتفاضة الشعبية من ضمنهم شخصيات مؤثرة شبابيا بين نجوم الغناء، وأبطال كرة القدم الذين ينتمي بعضهم لهذه الأحياء وهذه الضواحي الفرنسية التي ينتمي لها الفتى نائل مفجّر هذه المظاهرات.
وكأي أزمة داخلية تواجه دولة كفرنسا، ترتفع أصوات مختلفة بين شامت خارجي أو منافس داخلي وجد ضالته في هذه الأزمة ليثبت عدم قدرة القيادة على إدارتها والتعامل معها، وبين ناصح خائف من محاكاة عاجلة لجارة قريبة، وهو ما سبق حدوثه خصوصا مع تشابه سوء الأوضاع الاقتصادية والضغوطات الاجتماعية وبقية القرائن والإرهاصات التي تؤدي بالضرورة لذات النتائج.
وهو ما دفع الحكومة الفرنسية لاستدعاء ممثلين من شركات ميتا وتويتر وسناب شات وتيك توك، وقالت سناب شات إنها لا تتهاون مطلقا مع المحتوى الذي يروج للعنف، حتى أن البعض أرجع التقييد الأخير في تطبيق «تويتر» إلى هذه الأحداث في الشارع الفرنسي، وإن كان لإيلون ماسك رأي آخر!
وتظهر خلال هذه الأزمة الفرنسية بعض المفارقات المكرورة حين نجد بأن والدة نائل «مونية» رغم حزنها على فقد ولدها رفضت تحميل مسؤولية مقتله لجهاز الشرطة برمته قائلة «لا ألوم الشرطة، ألوم شخصا واحدا: الشخص الذي قتل ابني» في حين تجاوز زعيم اليسار الفرنسي، جان لوك ميلونشون اتهامه للشرطة بقتل نائل إلى اتهام نقابات الشرطة كلها بالدعوة للحرب الأهلية في فرنسا، كل ذلك في محاولات واضحة للصيد السياسي في مياه الأزمة الفرنسية، ثم السعي للتعبئة الشعبوية واستثارة الجماهير الغاضبة عاطفيا، ربما لجولات قادمة في مجال الانتخابات.
ختاما؛ لا بد من دروس مستفادة من تأمل الواقع الفرنسي وتحليله في العمل على استقراء الواقع المحلي لكل دولة، وتسريع وتيرة العمل على حلحلة تأزم الوضع الاقتصادي والمشاكل الاجتماعية المترتبة عليه كالبطالة واستمرار الاحتقان اليومي والغضب الشعبي، ولن يحصل ذلك دون متابعة حقيقية لواقع الشارع المحلي ثم استقراء متطلبات الناس وحاجاتهم الرئيسة، والعمل على التخفيف من معاناتهم على أقل تقدير إن لم يكن حلّها جذريا لإشعارهم بالمشاركة من واقع المسؤولية اللازمة لتحقق الأمن الداخلي غير المرتهن باشتعال مفاجئ، أو تمرد مباغت في وطن آمن رغم أزماته، وشعب مسؤول رغم معاناته.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
