عولمة الحكاية في نكهة المكان
يمر بنا كثير من العبور دون أثر يبقى أو بصمة تُعرف في حياتنا اليومية؛ أشخاص ومواقف وأماكن وحتى أشياء، كما أنه يمكن لكل ذلك أن يصنع أثرا بأقيال، وربما للمكان أو طعما لا يُنسى في الذاكرة.
لا يمكن لذاكرتي تجاوز برتقال إسبانيا، ولا سمك السلمون في أسكتلندا، وشوكولاتة بلجيكا، كما لا يمكنها تجاوز حلويات ليلية بنكهة اللبان في مسقط، أو شاي نهاريّ (وأنا الصديقة للشاي بنكهاته) بنكهة اللبان كذلك في مسقط، حدّ أن ذاكرتي صارت تربط مسقط باللبان كما تربط الجنوب بالرذاذ.
تطوّرت أساليب التسويق وفنونه في هذا العالم الرقمي المفتوح حتى أنها لم تبق شاردة ولا واردة إلا وقد أولتها عناية سعيا لاختلاف مبدع صانع للتميز، ولا يمكن هنا للتكرار والإعادة أن يكونا وسيلة للتسويق الأفضل والوصول الأمثل لمستهلك هو مقصد الجميع، تمر هذه الأساليب في التسويق على محاور موضوعية تعنى بالمنتج نفسه ومادته في جِدّة لا تستهلك قيمته، أو تسويقا ترويجيا بصريا عبر اللون ومستوياته في مزجه أو ربطه بمكان يمنحه خصوصية هي سر التفرد وغاية المقصد.
وفي واقعنا المَعِيش نرى الكثير ممن حولنا؛ أفرادا وشركات عثروا في شَرَكِ التكرار الذي أوصلهم لحفرة الكساد، كما أننا نرى قلة ممن أتقنوا لعبة الاختلاف والتميز ليس بالمتخيل التجاري وحده، ولكن بصنع الفرق عبر العناية بالمكان وتفاصيله وسيلة لمسارات أشمل وفضاءات أرحب.
فمن أين يؤتى التفرد؟ وأنّى لتسويق المنتج أو المكان تجاوز الوقوع في التكرار والتقليد؟
حينما يتجذر الوعي بالتسويق لدى الجميع فلا مفر من الخصوصية التي تضفي بصمة مختلفة وتصنع أثرا أخّاذا في قدرتها على جذب كل عابر أو مقيم.
وإن استقرأنا أبجديات المكان في سلطنة عمان غنمنا لا محالة تنوعا لا يمكن تجاوزه، هذا التنوع الذي يبدأ بالتضاريس مرورا بالطبيعة والتقاليد والأزياء وصنوف المأكل والمشرب ولا ينتهي بالطرب والطاقات اللونية البصرية المتاحة.
فلماذا يؤخذ الشباب من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة بإغراء التقليد للوقوع في فخ تقليد الآخر في حين يمكنهم الكثير؟
تحويل البيوت الأثرية في بهلا والحمراء ونزوى إلى نُزُلٍ سياحيّة ومقاهٍ شبابية جعلها مقصدا للكثير من السياح محليا وخليجيا وعالميا، والحلوى العمانية رغم تعدد نكهاتها تجديدا وتنوعا بقيت على رأس ما يطلبه الزائر لعمان أو حتى المقيم في مناسباته المختلفة، وبوظة بنكهة اللبان، وحلويات اللبان أو حتى شاي اللبان، وصابون الشوع أو زيته، وأفلاج الرستاق، وقرى عبري، نخل، البريمي وعيون الماء في الرستاق، وحواري نزوى العتيقة أو سوق مطرح المميزة عمرانيا، وصلالة الحانية صيفا ومسندم البديعة شتاءً.
هل يمكن لك وأنت العابر في مكان ما أو مدينة جديدة اختيار مقهى هو نسخة مكررة عن نموذج عالمي تجده في كل مكان مقابل اختيار مقهى بديع يحمل خصوصية المكان وتفرّده وربما تفاصيله وأسراره؟
هل يمكن لك تجاوز فضول اكتشاف الجديد إن كنت في مدينة أو قرية تؤمن بالتفرّد عبر الخصوصية والعالمية عبر تقدير الذات؟
هل يمكن توجيه هذا التوسع الهائل في الترويج الدعائي وأدواته لتحمل فكرة المكان وتوثيقه وتسويقه تنوعا لا يقبل التكرار، وخصوصية لا تقبل كسادا أو ركودا؟
لدينا -يقينا- كفاءاتٌ شبابية قادرة على استقراء المكان بثراء تنوعه وسخاء تفاصيله، ثم التقاط ما يناسب مشاريعهم منها في مجالات مختلفة بداية بالغذاء، مرورا بالأزياء والترفيه والسياحة وغيرها، فضاءاتٍ لا تُحَدُّ وإبداعاتٍ لا تُعَد؛ تجعل منك ومشروعك علامة تجارية متفرّدة مميزة بتفاصيل رائعة ومحتوى بديع.
لا بد من انطلاقة متفرّدة عبر حكاية خاصة تجعلها عالمية، ولا بد من تأمل متأنٍ لتفاصيل المكان للعثور على كنز التفرّد وسحر الخصوصية، أما فكرة العالمية عبر التقليد والتكرار فما هي إلا وهم سرعان ما يتضاءل ويلاشى بلا بصمة أو أثر.
هكذا استعدت نكهة حلويات اللبان ذات ليلة مسقطية وشاي اللبان في أخرى كما استعدت صوت درويش قائلا: "من يكتب حكايته يرث أرض المكان، ويملك المعنى تماما".
