عــودة داعـش
20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025
كارولين روز ـ كولين بي كلارك
ترجمة: أحمد شافعي -
بعد مرور تسعة أشهر على الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد إثر هجوم الثوار، تواجه سوريا سلسلة تحديات جديدة. فالبلد الذي تقوده الآن جماعة هيئة تحرير الشام المقاتلة يواجه صدامات طائفية عنيفة متكررة، وضربات إسرائيلية متتالية تخترق الأراضي السورية، ونزاعات داخل الحكومة الجديدة. وتزداد الاضطرابات حدة بعودة أحد أكثر تحديات سوريا دواما: أي تنظيم داعش.
منذ الإطاحة بنظام الأسد في عام 2024، تشن داعش حملة إرهابية في عموم سوريا، مستهدفة الحكم السوري الجديد، وكذلك أقليات المسيحيين والشيعة والأكراد. وكانت داعش في ذروتها عام 2014 قد استولت على قرابة ثلث البلد. وبرغم أن الجماعة لم تعد تسيطر على أي أرض في سوريا، وأن عدد أعضائها تناقص من قرابة مائة ألف مقاتل إلى ألفين وخمسمائة اليوم، فإنها تستفيد من فوضى ما بعد الأسد في سوريا لتعيد بناء نفسها وتكوينها، واضعة عراقيل جديدة أمام استقرار البلد المرجو منذ أمد بعيد.
وقد تبين أن قدرات الجماعة على الاستهداف متواترة ودقيقة وأكثر تطورا من ذي قبل، فهي تستهدف مواقع خارج نطاقات عملياتها التقليدية. في يونيو مثلا، هاجم تفجيري انتحاري مرتبط بداعش كنيسة للروم الأرثوذكس في دمشق فأسفر عن مصرع خمسة وعشرين وإصابة ثلاثة وستين. وبعد شهرين، شنّت الجماعة أكثر من عشرين هجمة في شمالي شرق سوريا، معتمدة على مزيج من تكتيكات حرب العصابات، من قبيل نيران الأسلحة الصغيرة والكمائن والاغتيالات والعبوات الناسفة المرتجلة التي استهدفت نقاط التفتيش العسكرية والمركبات الحكومية. وفي العام الماضي، أعلنت داعش مسؤوليتها عن مائتين وأربع وتسعين هجمة في سوريا، بعد مائة وإحدى وعشرين في عام 2023، وإن تكن تقديرات الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان أكبر من ذلك.
تشكِّل هذه الهجمات تحديا صارخا لمساعي الإدارة الجديدة إلى إحلال الاستقرار في البلد. فالوضع الأمني الهش بالفعل في سوريا يتسم بصدامات متواترة بين السنة والعلويين والدروز. وفي ظل تزايد الهجمات الإرهابية، تخاطر الحكومة السورية بإهدار شرعيتها السياسية حين تعجز عن حماية أقليات البلد. في الحين نفسه يواجه الشعب السوري احتمالية حقيقية لعودة إرهابية واسعة النطاق.
وسوف يزداد الوضع خطورة في حال مضي إدارة ترامب في مخططها المعلن في أبريل بالبدء في سحب قرابة الألفي جندي أمريكي المتمركزين حاليا في البلد. فمنذ عام 2014 تمثل الولايات المتحدة عماد التحالف العالمي لهزيمة داعش، وهو عبارة عن مجموعة دولية لمكافحة الإرهاب تعمل مع قوات الأمن المحلية للنيل من قوة داعش. ودونما مشاركة قوية من واشنطن، سوف يصعب على بقية أعضاء التحالف الثماني والثمانين أن يستمروا في إقصاء داعش أو في توفير دعم كاف لفاعلين من أمثال قوات سوريا الديمقراطية، وهي ميليشيا كردية في معظمها توصلت في الآونة الأخيرة إلى اتفاق للاندماج في الدولة.
ومع تناقص أعداد القوات الأمريكية وتزايد التوترات الطائفية، قد تجد القوات السورية صعوبة متزايدة في الحفاظ على السلطة في البلد. والمرجح أن قوام الجيش السوري و قوات سوريا الديمقراطية مجتمعين لا يكفي لمنع عودة داعش. ولذلك فإنه من أجل ردع داعش لا بد أن تحافظ الولايات المتحدة على بقائها في سوريا إلى ما بعد عام 2026. بل إنه سوف تنشأ حاجة إلى قوة إضافية من عدة مئات من القوات الأمريكية لدعم قوات الأمن السورية الجديدة بالمعلومات والمراقبة والاستطلاع وبناء القدرات. وفي حال إيقاف واشنطن دعم دمشق في مكافحة الإرهاب، فإن الحكومة السورية قد تعجز عن توحيد البلد ومنع عودة داعش. وفي حال تمكن داعش من استرداد قوتها في سوريا، فمن المحتوم أن تلتفت إلى تنفيذ هجمات في عموم المنطقة وما وراءها. فعلى واشنطن أن تمنع داعش من القدرة على إعادة البناء مرة أخرى لإثارة الاضطرابات في منطقة الشام كلها.
رجعة للانتقام
ترى داعش فرصة سانحة في سوريا المنقسمة. ويسعى قادتها إلى استغلال انقسامات البلد الطائفية والأيديولوجية لتجنيد مقاتلين جدد وإعادة بناء خلافتها. وترجو داعش من هجماتها أن تبين عجز الحكومة الحالية أو عزوفها عن حماية الشعب، وبخاصة أقلياته. وقد خلص تقرير حديث لفريق الأمم المتحدة للمراقبة إلى أن داعش «سوف تستمر في تمثيل خطر خارجي... إذا ما أتاحت انقسامات البلد مجالا كافيا يمكنها من التخطيط لتنفيذ هجماتها».
والحق أن داعش انشغلت انشغالا كبيرا خلال الربيع الماضي. في مارس، في أعقاب العنف بين السنة والعلويين في مدينة وميناء اللاذقية، نفذت داعش سلسلة هجمات على قوات سوريا الديمقراطية. ثم في مايو أطلقت الجماعة وابلا آخر من الهجمات في أعقاب اشتباكات في جنوبي دمشق بين قوات أمن الإدارة الجديدة والسنة والدروز. وفي الشهر نفسه، بعد أسبوع واحد من مقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض بالرئيس السوري الجديد والجهادي السابق أحمد الشرع، أطلقت داعش سلسلة تفجيرات وكمائن في عموم سوريا والعراق. وتبنت الجماعة أيضا زرع عبوة ناسفة استهدفت «إحدى مركبات النظام المرتد» في جنوبي سوريا، مما أسفر عما لا يقل عن سبعة ضحايا من الجيش السوري، وكان هذا هو أول هجوم مسجل على قوات الحكومة السورية منذ سقوط الأسد. وبعد أسبوع، نفذت داعش هجوما تفجيريا آخر في جنوب سوريا استهدف مقاتلين من ميلشيا جيش سوريا الحر المدعومة من الولايات المتحدة. والملاحظ أن هذه الهجمات جميعا قد وقعت في عمق الأراضي الخاضعة للحكومة.
جاءت هذه الفورة في أعمال العنف مصحوبة بفورة في دعاية داعش المناهضة للشرع وهيئة تحرير الشام. ففي رسالتها الإخبارية الأسبوعية الإلكترونية التي تصل إلى الجهاديين في شتى أرجاء العالم وتلهمهم، دأبت الجماعة على تشويه الشرع والحكومة الجديدة ودعوة جنود الجيش السوري إلى الانشقاق. وتطلق دعاية داعش على الشرع اسم «الجولاني» في إشارة إلى مؤامرة مفادها أن الرئيس السوري ـ المعروف من قبل بأبي محمد الجولاني ـ عميل زرعه الموساد الإسرائيلي لتغيير للنظام الحاكم في سوريا بما يخدم مصالح إسرائيل. كما وسمت الجماعة هيئة تحرير الشام بالكفار واتهمتهم بأنهم دمى تحركها الولايات المتحدة وإسرائيل. ومنذ أن تولت هيئة تحرير الشام والشرع السلطة، دأبت إسرائيل على تنفيذ هجمات وتوغلات برية في سوريا، ناثرة بذور الفوضى التي تتوق إليها داعش.
ومن المنذر بالقلق أن ثقة داعش المتزايدة تزامنت مع سحب الولايات المتحدة تدريجيا لقواتها من سوريا والعراق، جاعلة مستقبل التحالف العالمي في موضع شك. في سبتمبر 2024، أعلنت الولايات المتحدة والعراق معا أن التحالف العالمي سوف ينهي مهمته العسكرية في العراق بنهاية سبتمبر 2025 وفي سوريا بنهاية سبتمبر 2026. وفي أبريل، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية تقليل قواتها في سوريا من ألفين إلى ألف وأربعمائة بحلول نهاية العام الحالي. ونقلت الولايات المتحدة بالفعل السيطرة على ثلاث من قواعدها الثماني في البلد إلى قوات سوريا الديمقراطية مع خطط للاندماج في قاعدة واحدة فقط. وبرغم أن قادة البنتاجون حثوا الإدارة على إبقاء وحدة لا تقل عن خمسمائة فرد في سوريا، أشارت الإدارة إلى أن مزيدا من الخفض قد يتم. وفي العراق المجاور، تجري عملية موازية. ومع تحديد نهاية عام 2026 هدفا للانسحاب، تعيد قوات الولايات المتحدة توحيد نفسها من بغداد إلى إربيل في كردستان العراقية، وتخطط لتقليص حضورها في عدد صغير -وإن لم يكن محددا- من المستشارين العسكريين.
البقاء على الدرب
حينما التقى ترامب بالشرع في مايو، كان أول لقاء لرئيس أمريكي برئيس سوري منذ ربع قرن. ويعود جزء كبير من دافع إدارة ترامب لإعادة انخراطها في سوريا إلى رغبتها في إتمام انسحاب كامل من العراق وسوريا، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا إذا أثبتت الحكومة السورية الجديدة قدرتها على مواجهة داعش. وتحقيقا لهذا الهدف جعلت واشنطن مكافحة الإرهابية من أولوياتها، وذلك بتقديم مساعدة مباشرة في العمليات المضادة لداعش وبإمداد واشنطن بالمعلومات التي أحبطت ما لا يقل عن ثماني هجمات داعشية. كما ضغطت إدارة ترامب على الإدارة السورية الجديدة لتسريع إعادة الإعمار وجهود التوحيد الوطني، من قبيل دمج قوات سوريا الديمقراطية في الحكومة.
وسوف يعتمد تطور الأمور في سوريا -جزئيا على الأقل- على مدى التزام واشنطن بالاستمرار في محاربة داعش. فبعد عقد ونصف العقد من العنف الفائق من جهات لا حصر لها، سواء في الدولة أو خارجها، تواجه سوريا في أحسن الظروف طريقا طويلا إلى الاستقرار. وأي انسحاب أمريكي سوف يحدث فراغا لداعش وغيرها من المنظمات الإرهابية ترتب منه هجماتها، وتمعن في إحلال الاضطراب في البلد، وتنثر بذور الفرقة بين الفصائل المتنافسة، بل وتفتح الباب للمتطرفين الشيعة المدعومين من إيران ومنهم حزب الله. وفي حال سقوط حكومة دمشق أو عجزها عن توحيد أقليات البلد، سوف تغرق سوريا مرة أخرى في حرب أهلية.
بدلا من الرحيل قبل الأوان عن سوريا المتشظية، يجدر بالولايات المتحدة وشركائها في التحالف العالمي أن يقوموا باستثمارات بعيدة الأمد في أمن البلد. فالمهمة التي قادتها الولايات المتحدة أضعفت داعش كثيرا على مدى العقد الماضي، وتعاونت قوات الولايات المتحدة تعاونا فعالا مع قوات سوريا الديمقراطية وغيرها من الفاعلين المحليين في إجراءات مكافحة الإرهاب. وبرغم أن داعش لا تزال مهزومة إلى حد كبير، فقد أوجد التحول السوري في ما بعد الأسد مجالا لعودة الجماعة. ولا يجدر بالولايات المتحدة أن تنسحب من سوريا ما لم تتمكن القوات السورية من الدفاع عن البلد أمام داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية. وهذه اللحظة لم تحن بعد.
والرحيل الأمريكي السابق لأوانه، وفي هذه اللحظة الهشة، قد يقوّي داعش، ويقوض المهمة التي جاءت بالقوات الأمريكية إلى سوريا في المقام الأول. فلا يجب أن تمضي واشنطن في مخططها قدما. بل لا بد أن تستمر في إطلاع دمشق على المعلومات المخابراتية لتحبط هجمات داعش، وتكثف التدريب على مكافحة الإرهاب للجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية وغيرهما من الشركاء المحليين. فضلا عن ذلك ينبغي على إدارة ترامب أن تمنع حلفاء الولايات المتحدة من أي أعمال -من قبيل ضرب إسرائيل للأراضي السورية- تنطوي على خطر إدامة الفوضي التي تسعى داعش إلى استغلالها.
وأخيرا، وبدلا من إنهاء المشاركة الأمريكية في التحالف العالمي، على واشنطن أن توسع التجمع ليضم سوريا نفسها -وهي خطوة من شأنها أن تحسن التدريب المشترك وتبادل المعلومات والعمليات بعامة. وتحقيقا لهذا الهدف، يجب أن تضع الولايات المتحدة وشركاؤها شروطا تلتزم هيئة تحرير الشام باستيفائها للانضمام. ومن المؤكد أن الأعضاء الحاليين سوف يتحفظون على الترحيب بجهاديين سابقين من أمثال الشرع. لكن من أجل هزيمة داعش وجميع أمثالها، لا بد من إشراك الحكومة السورية الحديدة وتمكينها من النجاح.
كارولين روز مديرة بمعهد نيو لاينز وأستاذة مساعدة بجامعة جورج تاون.
كولين كلارك مدير الأبحاث بمجموعة صوفان وزميل باحث أول بمركز صوفان.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
