عندما ترفرف أعلام نوفمبر

08 نوفمبر 2021
08 نوفمبر 2021

د. عبد الحميد الموافي

مما لا شك فيه أن الأعياد الوطنية للدول والشعوب تشكل مناسبات تتسم بالأهمية والخصوصية الوطنية والمجتمعية، سواء لما تمثله من دلالات ومعان على مختلف المستويات، أو لما تحمله من رمزية ولما تذخر به من مشاعر وشحنات تتجاوز البعد العاطفي، خاصة وأنها ترتبط في جانب منها بقيم المواطنة والتضحية، وبالعلاقة الخاصة بين المواطن والأرض، والثقة في غد أفضل، تسهم في صنعه جهود كل أبناء الوطن في إطار الإستراتيجية الوطنية التي يتم تنفيذها. وفي هذا الإطار فإنه ليس من المبالغة في شيئ القول بأن شهر نوفمبر يحمل معانيَ ودلالات خاصة وعميقة لأبناء الشعب العماني الوفي، وهى معان ودلالات تتسابق لتعبر عن نفسها في عقول ونفوس كل أبناء الوطن، أينما كانوا داخل الوطن و خارجه، خاصة عندما ترتفع الأعلام العمانية للاحتفال بالعيد الوطني الذي تحل الذكرى الحادية والخمسون له هذه الأيام.

وبينما تمثل الذكرى الحادية والخمسون للعيد الوطني المجيد، فرصة للتأكيد على التماسك والتعاضد والتضامن بين أبناء الشعب العماني، وهو ما عبر ويعبر عن نفسه في العديد من الصور والأساليب والممارسات، وكان أقربها – على سبيل المثال لا الحصر - ما تم خلال الأنواء المناخية " شاهين " والتكاتف الواسع للتغلب على آثاره المباشرة وغير المباشرة في الولايات التي تضررت به، فإنها تمثل أيضا فرصة ليس فقط للنظر فيما تحقق على امتداد مسيرة النهضة العمانية الحديثة بوجه عام، وما تحقق خلال هذا العام بوجه خاص في مختلف المجالات، ولكن أيضا للتفكير وشحذ الهمم وحشد الجهود للحفاظ على ما تحقق وللمضي قدما لإضافة المزيد من الإنجازات التنموية في كل القطاعات، وللسير نحو تحقيق أهداف وأولويات الرؤية الإستراتيجية " عمان 2040 "، التي تم وضع أسسها وتحديد معالمها وأولوياتها برعاية حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – منذ مراحلها الأولى وحتى وضعها موضع التنفيذ العملي مع بداية هذا العام.

جدير بالذكر أنه في الوقت الذي تحمل فيه هذه الذكرى المجيدة طيف جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه – فهو المؤسس لمسيرة النهضة العمانية الحديثة التي انطلقت عام 1970 في ظل ظروف بالغة التعقيد، فإنها تحمل في الوقت ذاته إرادة الاستمرار والسير قدما، للبناء على ما تحقق، وللانطلاق بمسيرة النهضة العمانية المتجددة في مرحلتها الثانية، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه - لتحقيق حياة أفضل للمواطن العماني على امتداد هذه الأرض الطيبة. وفاء لما أنجزه السلطان قابوس – طيب الله ثراه – وتحقيقا لتطلعات المواطن العماني في الحاضر والمستقبل، وفي ترابط وثيق بين الأمس واليوم والغد. وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أنه في الوقت الذي وفرت فيه التغيرات العديدة والواسعة النطاق، التي أجراها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في مختلف المجالات والقطاعات، بما في ذلك إصدار النظام الأساسي للدولة بالمرسوم السلطاني رقم ( 6 / 2021 ) وإصدار قانون مجلس عمان بالمرسوم السلطاني رقم ( 7 / 2021 ) وإعادة هيكلة النظام الإداري للدولة، وإعادة النظر في العديد من القوانين، خاصة تلك التي تؤثر على مناخ الاستثمار وتسهل جذب المستثمرين، إطارا مؤسسيا وقانونيا ملائما لتعزيز جهود الاستثمار، المحلي والإقليمي والدولي، وتهيئة الاقتصاد العماني لمواكبة التطورات الإقليمية والدولية من حوله، وبشكل أكثر ملاءمة وكفاءة، فإن الضغوط التي صاحبت جائحة كورونا، ومتحورات فيروس " كوفيد 19 " في سلطنة عمان، كغيرها من دول المنطقة والعالم من ناحية، وما فرضته الأنواء المناخية " شاهين " من أعباء إضافية على الموازنة العامة للدولة وعلى الاقتصاد الوطني، بسبب الخسائر التي طالت ولايتي الخابورة والسويق بشكل أساسي، والولايات المتضررة الأخرى بوجه عام من ناحية ثانية، قد حدت نسبيا من قدرة الاقتصاد العماني على الانطلاق بالسرعة المأمولة لتحقيق خطوات ومنجزات على النحو الذي حددته خطة التوازن الاقتصادي ( 2020 – 2024 ). ومع ذلك فإن مما له أهمية ودلالة عميقة على الصعيد الاقتصادي، أن الأداء الاقتصادي حافظ في الواقع على قدرته على السير قدما، بل وتحقيق نتائج إيجابية، سواء على صعيد الاستمرار في إنجاز مشروعات تنموية كبيرة واستكمالها تقريبا، خاصة في المنطقة الاقتصادية في الدقم، وفي أكثر من منطقة أخرى في سلطنة عمان، أو على صعيد تحقيق معدل نمو جيد للناتج المحلي بوجه عام، وللقطاعات النفطية وغير النفطية، في النصف الأول من هذا العام، مقارنة بما كانت عليه في النصف الأول من العام الماضي 2020.

ومع إدراك الآثار المباشرة وغير المباشرة للتغيرات الهيكلية، وللظروف التي صاحبتها، بالنسبة للاقتصاد العماني، خلال العامين الأخيرين، فإنه ينبغي التأكيد على أهمية وضرورة الحفاظ على ما تحقق من منجزات خلال السنوات الماضية، باعتباره الأساس والركيزة التي يتم البناء عليها، والانطلاق من معطياتها الراهنة، لتحقيق أهداف وأولويات الرؤية المستقبلية " عمان 2040 "، سواء عبر برنامج التوازن الاقتصادي، أو عبر خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021 – 2025 ) التي بدأ تنفيذها هذا العام والتي تعد أول خطة تنمية خمسية في إطار رؤية " عمان 2040 ". والمؤكد أن الاستفادة من إيجابيات ما تحقق، و التعامل المدروس مع أية تحديات أو معوقات ظهرت، أو تظهر، يشكل أساسا لا غنى عنه لتحقيق استمرارية الأداء الجيد والمفيد في مختلف القطاعات، النفطية وغير النفطية، مع الاستمرار في تهيئة الاقتصاد العماني للتفاعل الأعمق والأوسع مع متطلبات اقتصاد المعرفة ومع احتياجات التنمية المستدامة والدور الحيوي للإبداع والابتكار فيها وهو ما يحظى بالفعل بأولوية ملموسة في الرؤية المستقبلية " عمان 2040" بمرتكزاتها المختلفة وأولوياتها المعروفة.

ثانيا: إنه إذا كانت الأشهر الماضية قد شهدت الأخذ بإجراءات تتسم بالطابع التقشفي وضغط الإنفاق الحكومي، في إطار برنامج التوازن الاقتصادي، وفرض ضريبة القيمة المضافة – وهو ما تأخذ به أكثر من 150 دولة في العالم بما فيها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وبنسب تزيد على ال 5 % في بعض الأحيان - وهو ما يؤثر على بعض القطاعات من المواطنين، فإن حرص حكومة حضرة صاحب الجلالة على تطبيق برامج متنوعة للرعاية الاجتماعية، والتعامل مع الظروف المختلفة لتخيف الأعباء عن الشرائح الأولى بالرعاية، بما في ذلك تعديل شرائح الاستهلاك للمياه والكهرباء على سبيل المثال، من شأنه التخفيف عمليا عن كاهل المواطن العماني. يضاف إلى ذلك أن البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أشارت في الواقع إلى ما يمكن اعتباره إنجازا ونتيجة إيجابية لتلك الجهود، خاصة فيما يتصل بنمو الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من هذا العام.

وفي هذا الإطار أشارت البيانات الرسمية إلى أن الاقتصاد العماني" نجح في التعافي من تبعات جائحة كورونا "، وهو أمر لم يتحقق بالنسبة لكثير من الدول الأخرى في المنطقة وخارجها. ومما له دلالة عميقة في هذا المجال أن الناتج المحلي الإجمالي حقق نموا في النصف الأول من هذا العام بلغ 10،1% ( أي ما يتجاوز عشرة في المائة ) بالأسعار الجارية مقارنة مع النصف الأول من العام الماضي. ولعل البعد الأكثر إيجابية في هذا المجال أن القطاعات غير النفطية - أي الصناعة والزراعة والأسمال والخدمات - قد أسهمت بنحو 71 % من إجمالي الناتح المحلي الإجمالي، وبما يقدر بنحو أحد عشر مليارا وأربعمائة مليون ريال عماني، في حين أسهمت القطاعات النفطية بنحو 29 % من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي وبنحو 4،4 مليار ريال عماني في النصف الأول من هذا العام. ويعني ذلك ببساطة أن جهود تنويع الاقتصاد والحد تدريجيا من الاعتماد على النفط تسير بشكل جيد، صحيح أن العائدات النفطية لاتزال تشكل النسبة الأكبر من العائدات الحكومية، ولكن الأداء الاقتصادي بوجه عام يسير نحو زيادة إسهام القطاعات غير النفطية، وهو ما يتطلب إعطاء دفعة لهذه القطاعات، وبما يتوافق مع مرتكزات وأولويات الرؤية المستقبلية " عمان 2040" وما تأخذ به خطة التنمية الخمسية العاشرة في هذا المجال. ومع الانحسار النسبي لوباء كورونا فإنه من المتوقع أن يحقق الاقتصاد العماني نتائج طيبة مع نهاية هذا العام، خاصة وأن خطة التنمية الخمسية العاشرة تستهدف تحقيق نمو حقيقي للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3،5% في المتوسط خلال سنوات الخطة وبنسبة 5،5 % في المتوسط بالأسعار الجارية. وتبشر الأرقام التي تحققت في النصف الأول من هذا العام بإمكانية تحقيق هذا الهدف بشكل مريح في العام الأول للخطة الخمسية العاشرة، وهو ما يدعم مواصلة تحقيقه خلال العام القادم 2022 كذلك، خاصة مع توفر ظروف أكثر ملاءمة للاقتصاد العماني في العام القادم مقارنة بالعامين السابق والحالي.

ثالثا: إنه ليس مصادفة على أي نحو، في ضوء المعطيات السابقة والجهود المتواصلة للحكومة، أن تعيد مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية تقييمها لأداء الاقتصاد العماني والتوقعات المستقبلية بالنسبة له، ومنها مؤسسة " موديز " التي صنفت أداء الاقتصاد العماني بأنه " مستقر "، وهو أمر إيجابي بالنسبة للاستثمار والمستثمرين الأجانب ولقدرة الاقتصاد العماني على تحقيق أولويات خطة التنمية الخمسية العاشرة ورؤية " عمان 2040 ".

من جانب آخر فإن مما له أهمية كبيرة أن صندوق النقد الدولي، وهو المؤسسة المالية الدولية التي تؤثر تقييماتها وتوقعاتها في أداء الاقتصاد العالمي وفي رؤية المستثمرين لأداء الاقتصادات الوطنية المختلفة التي يتناولها بالتعليق والتحليل في تقاريره المختلفة، قد أشار في تقرير مشاورات المادة الرابعة مع سلطنة عمان الصادر الشهر الماضي إلى أن " السياسات المالية المتخذة في عام 2021 والخطة المالية متوسطة المدى ( 2020– 2024 ) تعمل على إيجاد توازن بين اجراءات معالجة مواطن الضعف في المالية العامة ودعم التعافي الاقتصادي والحماية الاجتماعية، متوقعا استمرار تعافي الأنشطة الاقتصادية تدريجيا، مع تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي هذا العام بنحو 1،5 % ". وتجدر الإشارة إلى أن مجلس محافظي البنك المركزي العماني أشاد في اجتماعه الثالث لهذا العام في 29 سبتمبر الماضي بتقرير صندوق النقد الدولي وما حمله من " تقدير واسع لجهود سلطنة عمان لاحتواء الآثار الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا " كما أكد المجلس أن " السلطنة ماضية في تنفيذ برامج ومستهدفات رؤية عمان 2040 ".

وإذا كانت المؤشرات الموضوعية والعملية تشير إلى تعافي الاقتصاد العماني، والي سيره على الطريق الصحيح، برغم أية أعباء مرحلية تقتضيها اجراءات التعافي، وتخفف منها إجراءات الرعاية والحماية الاجتماعية التي يتم تطبيقها والتي يستفيد منها قطاع عريض في المجتمع، فإن احتفالات العيد الوطني الحادي والخمسين، والتي ترفرف فيها أعلام نوفمبر، تأتي في ظل ظروف أكثر إيجابية ولو بشكل نسبي، وهو ما يتطلب العمل وبذل المزيد من الجهود لمواصلة التعافي الاقتصادي، وللحفاظ على ما تحقق ويتحقق في مختلف المجالات، وبمشاركة كل فئات المواطنين بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – لتحقيق حياة أفضل للمواطن العماني اليوم وغدا.