عن القراءة والسفر

14 يونيو 2023
14 يونيو 2023

الكتاب رفيق الكثيرين، في الحل كما في الترحال، وما من جليس للمرء أفضل منه كما قال المتنبي. وكم شاهدتُ وراقبتُ مسافرين في المطارات ومحطات القطارات ومواقف الحافلات وعلى مقاعدهم أثناء ساعات السفر، وهو منقطعون عما حولهم، في سفر مواز داخل كتاب.

الكتابُ حياةٌ أخرى تُعاش، وكم عاش من اتخذ الكتاب رفيقا، حيوات وعرف عوالم لم يكن ليعيش ويعرف.

وإذا كان المقام راحة واسترخاء، فإن السفر قلق وتوتر، حتى على من اعتاده، ومن أصبح السفر جزءا من عمله أو نشاطه المهني، وقلق السفر وتوترّه، عند من أصبح الكتاب رفيقه، ينطبق على ما يأخذ معه وما يترك وراءه من كتب، بصرف النظر أكانت رحلة طويلة أم قصيرة.

كتبنا تستقر في بيوتنا، تنام على أرفف مكتباتنا، مطمئنون عليها، فنوقض منها ما نحب في الوقت الذي نحب، ليصحبنا إلى غرفة الجلوس أو غرفة النوم أو إلى الحديقة أو إلى المقهى، لكننا حين نزمع على سفر تصيبنا الحيرة ماذا نأخذ وماذا نترك، ونبدأ في المفاضلة بين كتب تنتظر دورها للقراءة، عوالم وحيوات لم نعرفها بعد، وكتب قرأناها وعرفنا حيواتها وعوالمها وأحببناها وبعضها تعلقنا به، أثرّ فينا وأثرى خيالنا. هناك من يميل إلى الجديد بالطبع، فالسفر اكتشاف للجديد والقراءة أيضا، لكن هناك من يحب إعادة اكتشاف القديم وإعادة قراءة ما سبق قراءته، وهم قلة أنا منهم.

سأقتبس من «سعيد قيصر» إحدى شخصيات رواية (الحرب) وصفه لنفسه، بأنه «قارئ بدوام كامل»، لأصف نفسي بأنني قارئ أيضاً بدوام كامل، ومثلما أنقذ الكتاب سعيد قيصر، كما قال في الرواية، مما وقع فيه كثير من أبناء جيله، فعل الكتاب معي ذات الأمر - تصادف أن مؤلف الرواية وكاتب هذا المقال هو نفس الشخص!

منذ تعرفتُ عليه، غيّر الكتاب حياتي، أنبتّ لي جناحين، وحملني من عالمي الصغير إلى مدن العالم، وعرّفني على ألوانه وأصواته وروائحه، ولولا الكتاب لما بلغتُ، في حياتي، ما بلغت. والكتاب، على خلاف أشياء كثيرة نحبها ونتعلق بها في مرحلة من مراحل العمر، ثم نملها ونتركها إلى سواها، لا يُملُّ ولا يُترك؛ حبٌ لا يقبل الشراكة.

عند كل استعداد للسفر، أقف حائرا أمام كتبي «من» سآخذ معي في هذه الرحلة؟ أمرّ على كعوبها، اشتم روائحها، استرجع ذكريات مع بعضها، أتذكر شخصيات في بعضها الآخر. وككل مغرم بالكتب، مكتبتي بها أيضا الكثير من العناوين التي تنتظر دورها للقراءة، لكنني في السفر، وعلى خلاف بعض الأصدقاء والمعارف، أميل إلى أخذ القديم على الجديد، إعادة القراءة على قراءة ما لم أقرأ، وكأنني أرد الجميل لكتاب أخذني، في مرحلة من مراحل العمر، في رحلة وسفر إلى عالمه، وعليّ أخذه في سفر إلى عالمي.

السفرُ كسرٌ للاعتيادي، للروتين في حياتنا اليومية، أكان سفر عمل، أم إجازة مع العائلة، أم رحلة استجمام قصيرة، وبالنسبة للبعض، حتى هؤلاء الذين تمثل القراءة لديهم اهتماما، كسر المألوف يشمل أيضا القراءة؛ فلماذا على المرء قضاء ساعة على شاطئ في جزيرة وهو يقرأ كتابا بمقدره قراءته عند عودته؟! غير أن هذا هو الفرق بين «الاهتمام» بالقراءة و «الاعتياد عليها»، بين أن تكون القراءة وسيلة لقتل الوقت أو لملء وقت الفراغ، وبين أن تكون «طريقة حياة».

قبل أيام وأنا أحضّر حقيبة السفر، وقفت، كما هي العادة، أمام كتبي، أسحب هذا الكتاب وأعيد ذلك إلى مكانه، أمرّ عليها وأكرر المرور، ماذا سآخذ وماذا سأترك. هل آخذ بعض الإصدارات الجديدة أم انحاز للقديم؟ وكما هي عادتي، انحزت للقديم، فحين وقعت يدي على «قلعة المصائر المتقاطعة» لإيتالو كالفينو، صرت مثل المنوّم، فقررت، دون تردد، أن يكون رفيق ساعات السفر.

كتب أخرى ذهبت إلى حقيبة السفر بالطبع لا يتسع المجال لتعدادها هنا. لكن ثمة علاقة وذكريات خاصة ربطتني بنصوص الكاتب الإيطالي العظيم كالفينو، نصوص الدهشة التي لا تنتهي.

يعود الفضل لتعرفي إلى كالفينو إلى صديق تعرّفتُ إليه في بغداد عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين، شاعر كردي عراقي يُدعى «جلال زنكابادي» وكان ينشر باسم «جلال ورده» (تفرقت بنا السبل بعد 1990 وانقطعت أخباره عني إلى الآن) حدّثني أول ما حدثني عن «مدن لا مرئية»، أذكر وصفه له؛ كتاب صغير لكنه لا ينتهي، وهو وصف في محله. خرجنا يومها إلى مكتبات بغداد بحثا عن الرواية التي ترجمها إلى العربية « ياسين طه حافظ»، وصدرت عن دار المأمون في بغداد عام 1987، ولم نجدها، لكن جلال وجدها لاحقا وأرسلها إلي بالبريد. بعد قراءتي لـ»مدن لا مرئية» - أذكر أنني كتبتُ مقالا عنها في المحلق الثقافي لصحيفة عُمان في ذلك الحين - صرتُ أبحث عن كل ما ترجم وما سيترجم للكاتب الإيطالي، فكان الكتاب الثاني «قلعة المصائر المتقاطعة» وهي رواية فاتنة ومدهشة أخرى، ترجمها أيضا ياسين طه حافظ وصدرت عن دار المأمون في بغداد عام 1992، ثم باقي أعماله «السيد بالومار»، «لو أن مسافرا في ليلة شتاء»، «الفوسكونت المشطور»، «ماركو فالدو» وغيرها.

القراءة أثناء السفر (أثناء ساعات السفر وخلال أيام التجوال) تُخرجك من عالمك وتدخلك عالما آخر جديدا، حتى وإن كنت تسافر إلى مكان سبق وزرته وتعرف كثيرا من تفاصيله، أو حتى لو كنتَ مسافرا في ليلة شتاء. حالة من «الخفة» أو من التخفف من ثقل الجاذبية، سفر يعينك على تجاوز مشاق السفر.