عن الغرب والإرهاب: العصا لداعش .. والجزرة لطالبان

04 سبتمبر 2021
04 سبتمبر 2021

في قراءة الموقف الغربي من المستقبل السياسي لأفغانستان بعد عودة السيطرة على الحكم لحركة طالبان، هناك ثلاثة عناوين تشكل قوام هذا الموقف هي، تأمين إجلاء رعايا الدول الغربية والأفغان الذين تعاونوا معها طيلة العشرين عامًا الماضية، وشروط التعاون مع الحكم الجديد، وضمان ألا يؤدي انسحاب القوات الأجنبية إلى عودة نشاط الجماعات الإرهابية حول العالم. وبما أن أفغانستان تمر بمرحلة انتقالية فاصلة يظل كل عنوان من هذه العناوين موضع جهود مكثفة من شأنها تحديد مدى النجاح في أن تمر هذه المرحلة بسلام.وبرغم أهمية عمليتي الإجلاء والتعاون المستقبلي، إلا أن القلق من إمكانية عودة النشاط الإرهابي قد حظي بقدر أكبر من الاهتمام سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي ليس فقط من جانب الدول الغربية، وإنما من جانب مختلف القوى العالمية المعنية بترقب ومتابعة كل المستجدات التي تخص ملف الإرهاب، فقد كان هذا القلق هو الأبرز في متابعة التطورات التي صاحبت سقوط كابول مجددا، نظرًا لارتباط تاريخ أفغانستان القريب نسبيا خلال حكم طالبان القديمة بانتشار الإرهاب عالميًا استنادًا إلى إيوائها لتنظيم القاعدة المسؤول عن أحداث 11 سبتمبر 2001 الشهيرة. ومن تابع هذه التطورات من اللحظة الأولى كان واضحًا لديه تركز التصريحات من جانب عديد القادة الغربيين وبالأساس داخل الولايات المتحدة على كيفية التصدي لاحتمالات عودة النشاط الإرهابي بشكل أكبر عما سادفي السنوات القليلة الماضية، ودارت الأسئلة التي تم توجيهها من وسائل الإعلام وتحليلاتها السريعة حول هذه القضية، وكأنها أمر مفروغ منه أو مؤكد طالما عادت طالبان إلى الحكم. ولبث الطمأنينة حرصت الإدارة الأمريكية من اللحظة الأولى على التأكيد بأن الأمر قد تم التحوط له جيدا خلال المفاوضات التي جرت بينها وبين حركة طالبان الجديدة منذ شهور عدة مضت، حيث تضمن الاتفاق بهذا الشأن تجنب العوامل التي تؤدي إلى عودة النشاط الإرهابي العالمي انطلاقا من أفغانستان، وبالأخص تجاه الولايات المتحدة. كما حرص القادة الجدد أيضا، على حسم الأمر، بالتأكيد على أنهم لن يسمحوا لأي جماعة إرهابية القيام بأي نشاط من هذا النوع يهدد الجيران والعالم ككل، وبالرغم من ذلك قفز هاجس الخوف من عودة النشاط الإرهابي العالمي إلى صدر المشهد، لدرجة أنه تردد كثيرا على لسان القادة الأوروبيين حلفاء الولايات المتحدة في الحرب على أفغانستان.والسؤال الذي يفرض نفسه هو إلى أي حد هذه المخاوف حقيقية أو دقيقة، وإلى أي حد هناك فرص للجماعات الإرهابية للعمل مستقبلا من حيث البناء على ما جرى في أفغانستان مؤخرا؟ وقبل الإجابة عن هذا وذاك، يمكن القول إننا نتحدث عن إرهاب محتمل لا إرهاب قائم واسع النطاق وشديد التأثير له مؤشراته على أرض الواقع، فطالبان المعاصرة لم يتم التعامل معها من الجانب الأمريكي على أنها تنظيم إرهابي، وإلا ما كان للمفاوضات التي جرت بين الجانبين أن تتم من الأساس، وإنما جرى التعامل معها على أنها حركة سياسية مسلحة معارضة للوجود الأجنبي في أفغانستان. والفرق كبير بين هذا التوصيف وذاك. وأما التعامل مع إرهاب محتمل فإنه يستحق النقاش والبحث وإجلاء الغموض اقترابا من الحقيقة إن لم يكن تأكيدًا لها. وبناء على ذلك يمكن المقارنة بين طالبان الجديدة وتنظيم مثل «داعش» أو القاعدة، لبيان إلى أي حد يتشابهان أو يلتقيان في بعض الأفكار والسلوكيات وإلى أي حد يفترقان. وهنا يمكن القول إنهم يلتقون في رفع شعار العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية ويعتمدون على تفعيل فكرة الجهاد، ولكن الربط بينهم وفقًا لهذه العبارة مضلل برغم أنها من شعاراتهم شكلاً. ليس فقط للتباين الشديد أصلا فيما يتعلق بالمقصود بالشريعة الإسلامية وشروط العمل بقاعدة الجهاد، والحديث في هذا الأمر يطول إن لم يكن موضع خلاف وجدل لا يفيد في إجلاء الحقائق، وإنما لأن هناك اختلافات موضوعية وتنظيمية بينهم تتجاوز كل ذلك، ومن ثم لا يجوز وضع الجميع على خط واحد أو حتى إيجاد موضع قدم للتعاون فيما بينهم. وللتدليل على ذلك تأتي طالبان كحركة سياسية، قديما كانت أم جديدة، قابلة بطبيعتها للتطور والتغيير وفقًا لمستجدات الواقع، وعلاقاتها الداخلية (داخل البناء التنظيمي والفكري) قائمة على التوافق والتوازن، وتستند في قوتها على ما يتحقق لها من ظهير شعبي، وعمرها الزمني ممتد أو مفتوح، بينما «داعش» أو القاعدة هي تنظيمات سرية مغلقة على ذاتها علاقاتها الداخلية قائمة على الطاعة المطلقة وليس لها ظهير شعبي يعتد به، وعمرها الزمني مشروط ومحدود حيث يمكن زوالها في أي وقت حسب حجم ما تتعرض له من قمع، وآلياتها في العمل التنظيمي متغيرة. ومن جهة أخرى فإن طالبان حركة سياسية وليست تنظيما، وتسعى إلى إقامة دولة دينية في نطاقها الجغرافي المحدد، بينما داعش يسعى إلى دولة دينية عالمية. الأولى رسالتها وطنية بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع توجهاتها السياسية، وأما الآخران فرسالة كل منهما عالمية لأنها لا تعترف بمسألة الوطن. ومن جهة ثالثة تطرح الحركة نفسها، في ثوبها الجديد، على أنها معتدلة لا متشددة من حيث تنزيل الفقه على الواقع، بينما العكس عند «داعش» أو القاعدة، حيث المعروف عنهما العنف والتطرف الشديد إلى حد انتهاك كل القواعد الإنسانية. ومن اللافت مثلا أن الرايات التي رفعتها الحركة بيضاء داخلها عبارة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، بينما راية داعش مثلا سوداء وداخلها نفس العبارة)!. وقد تبدو هذه الملاحظة بسيطة في نظر البعض، ولكنها مهمة فيما يتعلق بشخصية الحركات والجماعات التي من هذا النوع السياسي، حيث هي جزء من الرموز التي تسعى إلى تمييز نفسها بها، وواحدة من طرق الحشد والتعبئة. ومما يذكر أيضا في مسألة التمييز بين الحركة والتنظيمات الأخرى أن الصدام من جانب الولايات المتحدة حتى مع طالبان القديمة جاء من منطلق أنها كانت مأوى أو ملاذًا آمنا للقاعدة التي قامت بتفجير برج التجارة العالمي في نيويورك، وليس لأنها كانت جماعة إرهابية في تقدير الإدارة الأمريكية آنذاك، وكذلك للقضاء على تنظيم القاعدة الذي هو تنظيم إرهابي، وقد كان لها ما أرادت في هذا الأمر، خصوصا بعد اغتيال ابن لادن زعيم التنظيم في 2 مايو 2011.وجاءت عملية التفجير في محيط مطار كابول لتؤكد عمليا جدية الاختلافات الموضوعية بين طالبان الجديدة وتنظيم «داعش»، وهو ما يتضح من ردود أفعال الأطراف المعنية مباشرة بالحدث الذي أسفر عن مصرع ما يزيد على 100 مدني و13 جنديًا أمريكيًا وإصابة أكثر من 150 آخرين. فقد سارع تنظيم «داعش»- فرع خراسان إلى إعلان مسؤوليته عن الهجوم الإرهابي مشيرا في بيانه إلى وصف طالبان بالردة، أي الارتداد عن الإسلام، (لأنها تعاونت مع القوات الأجنبية التي في نظر التنظيم أعداء للإسلام). وأما طالبان فقد أكدت إدانتها للحادث وأخلت مسؤوليتها عنه مشيرة إلى أنه وقع في منطقة ضمن مسؤولية القوات الأمريكية. وأما الإدارة الأمريكية فقد توعدت من قاموا بالهجوم (تنظيم «داعش») برد مزلزل، وقالت: إنها كانت تتوقع هذا وغيره في الأجل المنظور، فيما يعني أن لديها الاستراتيجية التي ستتعامل بها مع فلول التنظيم (الذئاب المنفردة على وجه الدقة).

استنادًا إلى معطيات العرض السابق يمكن القول إن القلق الغربي من إمكانية عودة الإرهاب مشروع وحقيقي، ولكن المبالغة فيه ليست مبررة، لأن فرص حدوثه محدودة وطارئة لا كبيرة ودائمة. والأرجح القلق المبالغ فيه جاء في سياق التحوط والحذر بناء على تقارير مخابراتية تحدثت عن وجود بضع مئات من «داعش» ممن يعدون ذئابا منفردة وليس تعبيرا عن انتشار التنظيم هناك بالفعل، وواقعة انفجار المطار جاءت تأكيدًا لهذا القلق.

وهنا يأتي الجانب الآخر من التحليل وهو الإجراءات الاحترازية الدولية بألا يسفر الانسحاب عن عودة للجماعات الإرهابية إلى أفغانستان ومن ثم الانطلاق منها إلى بقية العالم مجددا. وفي هذا الصدد كانت هناك مؤشرات على اتخاذ الحيطة حاضرًا ومستقبلًا. فلم تعترض العواصم الغربية على عودة طالبان للحكم بل جاءت العودة باتفاق مع الولايات المتحدة. ووجود دولة في أفغانستان أفضل من الفوضى بغض النظر عن أجندة هذه الدولة، لأن وضعا كهذا يجعلها خاضعة لقواعد التعاون الدولي شاءت أم أبت، ومن بين هذه القواعد ألا تكون ملاذًا آمنا للإرهاب. وقد أشارت كل تصريحات المسؤولين الغربيين إلى أن الغرب سيتعامل مع طالبان الجديدة على ضوء الأفعال لا الأقوال، بمعنى أنه يربط تعاونه مع الدولة الوليدة بمدى التزامها عمليا بتعهداتها التي في مقدمتها رفض السماح لأراضيها بأن تكون ملاذًا آمنًا للإرهابيين. ومن جهة أخرى تضمنت هذه التصريحات التعهد من العواصم الغربية بالتنسيق القوي فيما يتعلق بملاحقة «داعش» أو أي تنظيمات أخرى للقضاء على أنشطتها أولا بأول. ولا شك أن المجتمع الدولي عموما قد استوعب درس التعامل مع الإرهاب بعد عقود من المواجهة الفاشلة، ولن يسمح بعودته مرة أخرى حفاظا على مصالحه الحيوية وأمن وسلام شعوبه كافة. ويمكن القول: إن التنسيق الدولي في هذه القضية قبل سقوط كابول شيء وبعد السقوط شيء آخر. هكذا ليس من الغريب القول: إن استراتيجية الغرب بعد سقوط كابول فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب تشير ببساطة إلى أن العصا تكون دائمًا لداعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، بينما الجزرة لطالبان الجديدة لكى تكون جزءا من المجتمع الدولي لا معزولة عنه.