عن استشهاد آل هنية

14 أبريل 2024
14 أبريل 2024

دماء أبناء وأحفاد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس «ليست أغلى من دماء غيرهم من الشهداء الذين سبقوهم بالحرب الإسرائيلية على غزة»، هذا ما أكده الأب المكلوم إسماعيل هنية، في تصريحات مصورة أدلى بها لقناة الجزيرة، بعد تلقيه نبأ استشهاد ثلاثة من أبنائه وأربعة من أحفاده بغارة إسرائيلية استهدفت سيارة مدنية كانوا يستقلونها في مخيم الشاطئ بغزة، في أول أيام عيد الفطر الموافق العاشر من أبريل 2024م. وهذه حقيقة أثبتها هنية واقعًا، وأثبتها أبناؤه وأحفاده كذلك، فهم ظلوا في القطاع ولم يبرحوه، حالهم حال أبناء غزة كلهم، عكس ما روّجه البعض من المتصهينين العرب من أنّ أبناء هنية يتنعمون برفاهية فنادق خمسة نجوم في قطر، وزادت إحدى القنوات الفضائية بأنهم في تركيا يمارسون التجارة بالملايين، على حساب الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، لكن الجريمة أثبتت أنّ أبناء القائد وأحفاده يعيشون المصير نفسه الذي يعيشه جميع أبناء غزة، وهم معرّضون للأخطار كما كلّ مواطن فلسطيني آخر، وفي المحصلة النهائية إذا كان من خير -غير الشهادة التي نالها أبناء هنية- فإنّ الجريمة الإسرائيلية، شكلت لطمة شديدة ومؤلمة على وجوه المرجفين، الذين ادعوا أنّ هنية هرَّب أبناءه وأحفاده وعائلته خارج غزة.

في كلّ الأحوال فإنّ استشهاد أبناء هنية وأحفاده يوم العيد لم يكن هو الاستشهاد الأول في العائلة؛ فهؤلاء التحقوا بركب نحو ستين شهيدًا من شهداء آل هنية، كما أشار بذلك بيانُ نعي حركة حماس، ولم يفت الحركة التنويه بأنَّ الممارسات الإجرامية الإسرائيلية «لن تفلح في كسر إرادة الصمود لدى كلّ أبناء الحركة والشعب الفلسطيني، ولن تزيدهم إلا ثباتًا وإصرارًا على مواصلة المعركة»، وهو ما وضح بالفعل من ردة فعل هنية عند تلقيه نبأ الاستشهاد الذي اعتبره شرفًا: «أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمنا به وحازوا شرف الزمان والمكان والخاتمة.. بهذه الآلام والدماء نصنع الآمال والمستقبل والحرية لشعبنا وقضيتنا وأمتنا»، وذهب أبعد من الألم الشخصي إلى الحزم في أيّ مفاوضات مع الكيان: «نقول لإسرائيل ما لم تأخذه بالتدمير والمجازر والإبادة لن تأخذه على طاولة المفاوضات»، بمعنى أنّ الكيان يعتقد خطأ أنه باستهداف أبناء قادة حماس سيكسر عزيمة الشعب الفلسطيني، لكن هذه الدماء المراقة «لن تزيدنا إلا ثباتًا على مبادئنا وتمسكًا بأرضنا، فلن نرضخ للابتزاز الذي يمارسه الاحتلال ولن نتنازل ولن نفرّط مهما بلغت تضحياتنا».

لقد تفاعل أهل غزة مع خبر استشهاد أبناء هنية على نطاق واسع، وضجّت منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات تتحدّث عن التوقيت والرسائل والأهداف الإسرائيلية من العملية، وكان الاتفاق الكبير في كلِّ ذلك التفاعل، على أنّ جريمة الاغتيال تهدف إلى ممارسة ضغوط لتحقيق مكاسب سياسة في «معركة المفاوضات» الخاصة بوقف إطلاق النار وإنجاز صفقة تبادل أسرى، لقد أراد الكيان أن يقول إنه مستمرٌ في الحرب، وعلى حماس أن تقدّم التنازلات وتلين من مواقفها، وأنّ هذه الحرب بلا خطوط حمر ولا حصانة فيها لأحد، حتى لأبرز قادة فصائل المقاومة وأسرهم وأبنائهم وأحفادهم الصغار، وبالمقابل فإنّ العملية أكدت -للعالم- أنّ قادة حماس وأبناءهم هم بين أوساط شعبهم، ولم يغادروا القطاع.

وإذا كان خبر استشهاد آل هنية قد أفرح الصهاينة، كما صرح بذلك ألموج كوهين عضو الكنيست الإسرائيلي بأنه تلقى خبرًا مفرحًا، إلا أنّ الغريب أنّ بعض العرب الذين صدّعوا رؤوسنا كذبًا وزورًا وبهتانًا عن أبناء قادة حماس وحياتهم المرفهة في الخارج، تلقوا الخبر بشماتة، فوصف البعض ردة فعل إسماعيل هنية في الفيديو المتداول وهو في إحدى مستشفيات قطر لزيارة مجموعة من المصابين الفلسطينيين القادمين من غزة، لحظة تلقيه اتصالًا هاتفيًّا وإبلاغه بمقتل أبنائه وأحفاده بـ«المسرحية»، ووصل المرضُ بالبعض أن يغرّد بأنه يشك في صحة خبر «مقتل أبناء أحد أهم رموز قادة حماس الإرهابية»، ونشر بكلّ جرأة أنه «ربما القصد من الخبر تحسين صورتهم لدى الشعب الفلسطيني والمتعاطفين معهم من (قطيع المغيَّبين) العرب الذين بدأوا (تدريجيًّا) يعون حقيقتهم بعد خراب كامل لقطاع غزة بمن فيها وما فيها ومن عليها من البشر والشجر نتيجة (طوفان الحمقى)»، وفي الحقيقة مثل هؤلاء يجعلون الإنسان يعرف من المقصودون بقول الله سبحانه وتعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، فهل هناك فعلًا مرضٌ أكثر من هذا؟!

تبنت قناة «العربية» وجهة النظر الإسرائيلية وبثت -كما نشرت في موقعها الإلكتروني- خبرًا نقلًا عن الجيش الإسرائيلي بأنّ أبناء هنية كانوا في طريقهم لتنفيذ نشاط إرهابي وسط قطاع غزة، متجاهلة أنّ الأبناء الثّلاثة كانوا في طريقهم لتهنئة أهلهم وأقاربهم بمناسبة عيد الفطر، والدليل اصطحابهم أطفالهم معهم في السيّارة المدنيّة.

كشفت غزة الأقنعة، وفضحت المرضى، وميّزت بين الخبيث والطيب، وأصبحت المقياسَ الحقيقيّ لمعرفة المتخاذلين والمنافقين، ولم أكن أتصور أني سأعيش إلى هذا اليوم الذي أرى فيه عربًا ومسلمين هم ألد خصامًا وأكثر عداوةً من الصهاينة أنفسهم.

وبقدر ما نعزّي إسماعيل هنية، فإننا نبارك له هذا الارتقاء، فعساه باستشهاد آله، أن يكون من الذين قال الله فيهم: (منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا). ونقول مثلما قال الشيخ هلال بن سالم السيابي في قصيدة تعزية وتهنئة لإسماعيل هنية:

عزاؤك أنهم لله راحوا كواكب، لا يروعها النباحُ

وهل تخشى الكواكب من عدو، وإن طالت بكفيه الرماحُ

لقد خاضوا العراك، وأشربوه صفاحًا من أسنَّتِها الصفاحُ

فلا عجب إذا راحوا كرامًا، كما ينشق بالأفق الصباحُ

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلّف كتاب «الطريق إلى القدس»