عُمان.. ما بين احتجاجين

13 يونيو 2021
13 يونيو 2021

خميس بن راشد العدوي -

الأحداث الأخيرة.. التي مرت على السلطنة، المطالِبة بتوظيف الباحثين عن العمل والمسرحين منه؛ يجب ألا تمر علينا دون تحليل وفهم، ومعالجة لها، والقضاء على أسبابها، وهذا لا يتأتى إلا بتتبع تداعيات الأوضاع، وبالنظر في أسبابها منذ نشأتها حتى الآن، وهذا عمل يجب أن تقوم به مؤسسات ومحللون مختصون. وسأقتصر على المقارنة بين أهم الملاحظات على أحداث عامي 2011، و2021م.

عشر سنوات كاملة.. تعني ربع عمر الدولة المكتملة، والتي تقدر بأربعين عاماً، حتى تعيد بناء نفسها برؤية وفلسفة جديدة وفق مقتضيات عصرها، وتعني للسلطنة خطتين خمسيتين. وهذا بلسان مبين: إنها كافية لإصلاح الخلل، وإعادة ترتيب مرافق البيت لتجاوز الأزمات القائمة. ولذلك.. هي تكشف بأن هناك خلالاً في آلية عمل الحكومة المتبعة حينذاك، حيث لم تكن تعمل إلا تحت ضغط توجيهات السلطان، فلما دخل في مرض موته رحمه الله حصل التراخي عن معالجة الوضع.

وفي ظل «النهضة المتجددة» التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ينبغي النظر في هذه العلاقة، فوفق «النظام الأساسي للدولة».. للسلطان اختصاصاته، وللحكومة اختصاصاتها، التي عليها أن تقوم بها بنفسها، ولا تنتظر تدخّل السلطان لحل مشكلاتها المتتابعة. ولسلوك السبيل السليم في تصحيح المسار؛ يقتضي الوضع قراءة الأحداث بين الاحتجاجين، اللذين جاءا في ظرفين متباينين، وبدوافع مختلفة.

في عام 2011م.. انطلق الاحتجاج بعد اندلاع الربيع العربي في تونس، وكانت أولى تداعياته المسيرة الخضراء الأولى بتاريخ 17 يناير في مسقط، سابقة بأسبوع ثورة 25 يناير في مصر. ثم المسيرة الخضراء الثانية بتاريخ 18 فبراير، كذلك في مسقط. وقد دعا إليهما المثقفون تناغياً مع ما يحدث في تونس، وقد تأكدت الدعوة بالثورة المصرية، وبنظري.. أن هؤلاء المثقفين رأوا الفرصة مواتية للتعبير عن رغبتهم في التغيير السياسي، والتي ظهرت عام 2010م حين كتبوا ما سمي بوثيقة «الدستور التعاقدي»، والتي وقّعها مجموعة من المثقفين. فالدافع الأساسي سياسي، ومقدماته سياسية، ولم يحضر الجانب الاجتماعي كالمطالبة بالتوظيف وتحسين الرواتب بدايةً إلا للاعتضاد به في تحقيق الدافع السياسي، وذلك.. انعكاساً للثورة في تونس. بيد أن الوضع جرَّ الشباب للخروج مطالبين بتوظيفهم، وكانت أول انطلاقة لهم هي الاحتجاج في صحار بتاريخ 25 فبراير، أي بعد أكثر من شهر على المسيرة الخضراء الأولى.

بينما احتجاج 2021م؛ والذي بدأ هذه المرة من صحار، ولم يتوسّع كثيراً إلى غيرها، لم يحضر فيه الدافع السياسي، وإنما كان دافعه اجتماعياً، وتحديداً المطالبة بالتوظيف. ولذلك.. غاب المثقفون عنه، وجاء حضور بعضهم متأخراً عبر وسائل الإعلام، للحديث عن مشكلة التوظيف، وليس للتعبير عن رأيهم السياسي. هذا الغياب.. يمكن تفسيره بعدة أمور -أرجئ الحديث عنها- منها أن المثقفين يأملون بأن الإصلاحات التي يقوم بها جلالة السلطان حفظه الله ستُدخِل تغييراً حقيقياً ومرجواً للفترة الراهنة، والذي ابتدأ بهيكلة الجهاز الإداري للدولة والإصلاحات المالية والاقتصادية.

ومما يُلحظ أيضاً.. أن احتجاج 2011م جاء مفاجئاً للجميع، بمَن فيهم الدولة والمثقفون الذين خرجوا في المسيرة الخضراء، ولذلك.. تصاعد بوتيرة سريعة -دون نسيان تأثير الوضع العربي حينها- كاد أن يتطور إلى صدام، لولا حكمة صاحب الجلالة السلطان قابوس طيّب الله ثراه، فمنع أية مواجهة شديدة ضد المحتجين، ثم قام بتغييره السياسي وتحسينه للرواتب وأمره بالتوظيف، ومع ذلك امتد الاحتجاج إلى كثير من بلدان عمان، واستمر ما يقارب ثلاثة أشهر.

بينما الأحداث الأخيرة.. لم تأتِ مفاجئة، بل كان الباحثون والمسرحون عن العمل يضغطون بمطالبهم عبر نوافذ التواصل الاجتماعي، ويصرّحون بدعوتهم للتجمع. وفي المقابل.. كانت الحكومة ترصد تتطور الأوضاع، وتسابق الزمن في الإصلاحات والتغلب على الأزمة الاقتصادية الراهنة، ويبدو.. أن الحكومة قد أخذت استعدادها فيما لو نفد صبر الشباب، فكأن سيناريو المعالجة جاهز في حال الاضطرار إليه، وهذا ما حصل، حيث تعاملت الأجهزة الأمنية بتفهّم كبير للشباب، وخرج مسئولو الحكومة للتفاهم معهم، كما لم تتأخر توجيهات جلالته أعزَّه الله في الأمر بالشروع في الحل، فانسحب المحتجون من تجمعهم سريعاً، مع أخذ الاعتبار شدة حرارة الجو، والتي لها تحليل آخر أيضاً، لا أطرقه هنا.

يوجد أيضاً تباين في الوضع الاقتصادي للدولة بين الزمنين؛ فهناك وفرة مالية جيدة قبل عام 2011م؛ حيث كانت أسعار النفط مرتفعة والديون محدودة. فالمشكلة.. ليست في العجز المالي بمقدار ما كانت في عدم الإنفاق الصحيح للمال، وفشل المشاريع الاستثمارية الكبيرة عن تحقيق التنوع الاقتصادي الرافد للميزانية العامة للدولة، وكان الاعتماد شبه كلي على البترول والغاز، ولذلك.. كان المثقف يرى أن التصحيح يحصل عبر التغييرات السياسية، التي خرج للمطالبة بها. وقد هدأ باله مع تعديلات «النظام الأساسي للدولة»، وتعيين بعض المثقفين وزراءَ ووكلاءَ، وتمكين قيادات مؤثرة على المؤسسات الثقافية. مع إجراءات أخرى قصدت باقي شرائح المجتمع؛ خاصة.. الجانب الديني.

بينما الوضع الاقتصادي في الاحتجاج الأخير بخلاف ذلك، حيث تراكمت الديون على الدولة، وانهارت أسعار النفط، وشَلّت حركة العالم بسبب جائحة كورونا «كوفيد19»، فعجّل جلالته أدام الله مجده بإصلاحات حاسمة في السياسة المالية، للتخفيف من ضغط العجز. وقد بدأت معالجة أزمة الباحثين عن عمل بالتوظيف كذلك؛ في إطار سياسة إصلاحية مُدرِكة لتطورات الوضع قبل وقوعه، وفيما أحسب.. ستكون حلولاً موفقة، ولكن لابد أن يصحبها استثمار حقيقي للتوظيف حتى لا يتحول إلى ترهل إداري، فتتعمق الأزمة كما حصلت في المرة الماضية.

قبل احتجاج عام 2011م.. كانت السلطنة تعيش في «سكون سياسي»، فهي لتَّوِها -قبل أشهر- احتفلت ببلوغ النهضة الحديثة أربعين عاماً منذ انطلاقها، كما أنها لا زالت في منتصف تنفيذ «رؤية عمان 2020» المُؤَمِلة بالازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، سكونٌ.. أنسى الحكومة اكتمال مرحلة الدولة، وضرورة التحوّل لمرحلة جديدة، حيث لا ينبغي لكل مرحلة من الدولة أن يزيد عمرها عن الأربعين عاماً. بينما احتجاج عام 2021م.. جاء في بداية المرحلة الثانية للدولة، وقد أدرك جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ذلك، فأطلق عليها «النهضة المتجددة»، وفعلاً.. رأينا الإصلاحات في العديد من ملفات الدولة؛ وفي مقدمتها إعادة هيكلة الجهاز الإداري، والإصلاحات الاقتصادية. فالحالة الآنية مُدرَكة من الدولة، وجاءت والحكومة في استنفار للتجدد، وقد وضعت الاحتمالات التي قد يثيرها التغيير؛ فرسمت خططها للتعامل معها، وهذا ما يميّز هذه المرحلة عن المرحلة الماضية التي جعلت التغييرات؛ السياسية والاجتماعية كردة فعل غير متيقن من نتائجها.

وردة الفعل هذه؛ التي اُضطرت إليها الدولة وقتئذٍ، سمحت لبعض مراكز القوى فرض أجندتها في تعيينات المناصب العليا، فبقي الوضع كما هو، كأن من غادر الحكومة حينها لم يغادرها حقيقة، فظلت تدار بعقلية المرحلة المنتهية من الدولة. بينما الآن.. الدولة شرعت في التغيير، منذ وصول جلالته حفظه الله للحكم، وفق رؤية جديدة «عمان 2040م»، أشرف على صياغتها بنفسه، وقد ارتكزت على بناء المستقبل بعقول شابة طموحة، مما يجعلنا على أمل بأن تتخطى الدولة كثيراً من أزماتها، لاسيما تلك المُرَحَّلة من الماضي، والتي تعرقل الدولة عن النهوض الحقيقي.

ختاماً.. أنه في العهدين؛ كان الجميع محباً للسلطانين المعظَمَين قابوس وهيثم، وأن الشعب لا يفرّط في حاكم بلاده، مهما كانت الظروف قاسية. وعلى الحكومة أن تدرك بأن المحبة المتبادلة بين السلطان وشعبه؛ ينبغي ألا تركنها للتسويف عن القيام بالواجب المنوط بها، بل يجب أن يكون ذلك حافزاً للفاعلية والإنجاز. الأمر الآخر المتفق عليه.. هو وجوب مكافحة الفساد، وإزاحة المقصرين والعاجزين عن إدارة مؤسسات الدولة، وهذا أمر ضروري حتى تستقر البلاد ويطمئن الشعب.