على عتبة الجيل الرابع من ابتكارات سلامة وجودة الغذاء

23 أبريل 2024
23 أبريل 2024

بتاريخ 31 من شهر أكتوبر من العام المنصرم 2023م، أعلنت هيئة خدمات الصحة العامة في كندا رسميًا عن انتهاء وباء بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) في مقاطعة ألبرتا، ظهر تفشّي هذه البكتيريا في دور الرعاية النهارية للأطفال في مطلع شهر سبتمبر من نفس العام بسبب التلوث الميكروبي في أحد مرافق المطبخ، وأدى إلى إصابة (356) حالة مؤكدة من التسمم الغذائي، و(90) حالة إضافية مشتبهًا فيها. ولحسن الحظ، لم تُسجل حالات الوفيات المرتبطة بهذا التفشي. وكما هو الحال مع جميع سيناريوهات مشكلات الغذاء، فإن إدارة هذه الحالة اعتمدت بشكل كامل على مخرجات اختبارات الأدوات التحليلية لتقييم مدى التزام المنشأة باشتراطات سلامة وجودة الأغذية أثناء التحضير والتداول، وكذلك اختبارات مدى مطابقة الوجبات التي تقدمها دور الرعاية لمعايير السلامة الغذائية، وهنا تظهر أهمية عوامل الدقة والسرعة في إنهاء التحاليل المختبرية لإتاحة البيانات القائمة على الأدلة لمتخذي القرار، والسؤال الأكبر هنا: هل ابتكارات قياس سلامة وجودة الغذاء تتناسب مع الاحتياج الفعلي لها في الواقع لحماية الصحة العامة، ومع الأخذ في الاعتبار أن مأمونية الأغذية قد أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى مع تداعيات العولمة وطول سلسلة الإمداد؟

إذا بدأنا من المفهوم ذاته، نجد بأنه حينما يأتي ذكر موضوع سلامة وجودة الغذاء فإن الانطباع التلقائي يتمحور حول فترات صلاحية الأغذية ومنتجاتها، ولكن على المخططين وراسمي السياسات التعامل مع ملف السلامة الغذائية بنهج شمولي ومتكامل بغية فهم العوامل المعقدة والمتفاعلة التي تدخل في جميع أنحاء السلسلة الغذائية، ومع التركيز على علاقتها الوثيقة بالأمن الغذائي، فإذا لم تستوف الأغذية معايير السلامة، فإن توافرها من حيث الكمية فقط ليس مجديا على ضوء المخاطر الصحية المحتملة أو تدني الجودة التغذوية؛ لأن التحدي الحقيقي في تحقيق الأمن الغذائي هو ضمان حصول جميع الناس على ما يكفي من الغذاء لأجل حياةٍ لائقة ومُنتجة، ولكن شريطة أن يكون الغذاء آمنا للاستهلاك الآدمي من حيث خلوّه من الملوثات الكيميائية، أو الفيزيائية، أو البيولوجية، وهذا ليس بالأمر الهين؛ فصناعة الغذاء في المشهد الراهن قد تحوّل بشكل جذري عمّا كان عليه الوضع قبل ثلاثة عقود من الزمن، وأصبح المنتجون يضعون المقاييس الفارقة بين ما يطلقون عليه اسم «الأغذية الكلاسيكية» والأشكال المبتكرة للغذاء مثل البروتينات البديلة الناتجة عن مختلف أشكال الهندسة الوراثية المتقدمة، والأغذية الوظيفية التي يتم صناعتها عبر تكنولوجيات الإنتاج الغذائي الدقيق لتتناسب مع متطلبات الحالات الصحية للمستهلكين، واللحوم المستزرعة مختبريًا من الخلايا الجذعية لضمان إنتاج البروتين الحيوي بكميات كبيرة دون الحاجة للمساحات المكانية، ومدخلات رعاية الحيوانات، والمسالخ، والخدمات اللوجستية على طول سلسلة القيمة، والأمثلة كثيرة على ظهور الجيل العصري من غذاء المستقبل المغايرة كليا للأغذية المعتادة لدينا، وتتناسب مع تغييرات أنماط الحياة التي تهيمن عليها التكنولوجيا الرقمية، وبذلك يمكننا أن نتخيل بأنه مع توالي الاستكشافات العلمية على مستوى تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، فإنه وبالتبعية ثمة ظهور تدريجي للجيل الرابع من الأغذية المتوائمة مع هذه التوجهات المعاصرة، مما يفرض مواكبة ذلك بتطوير الجيل الرابع من ابتكارات علوم الغذاء التطبيقية والتصنيع الغذائي؛ لأن تفضيلات المستهلك، ومفاهيم السلامة والجودة تختلف كثيرا بين منتجات الغذاء الكلاسيكي وبين أغذية المستقبل الابتكارية.

فإذا نظرنا بتعمق إلى طرق التحليل والتقييم الحالية نجد أن معظمها تتم داخل مختبرات الرقابة الغذائية أو مختبرات بحوث علوم الغذاء، وتستغرق فترات زمنية محددة لتقيدها بتنفيذ بروتوكولات الاختبارات المعيارية، ثم مقارنة المخرجات بالمواصفات المرجعية القياسية، وتحديد مدى مطابقتها لمعايير التقييس والامتثال لمتطلبات السلامة والجودة، وهي سلسلة متعاقبة من مراحل العمل التي تعتمد على بعضها البعض، وعلى الرغم من أهمية اتباع المنهجية العلمية الاستقصائية في الرقابة الغذائية، إلا أن ديناميكية التحديات الناشئة في سلاسل الغذاء، وموضوعاتها المعقدة تجعل من هذا التوجه رهانًا خاسرًا، ففي نهاية المطاف يحتاج متخذو القرار إلى بيانات دقيقة في وقت قياسي يسمح بالتدخلات التصحيحية لتقليل الآثار السلبية الناجمة عن تحديات الغذاء التي هي بالأصل ليست ظواهر علمية تتطلب فهم المختصين، ولكنها آثار واضحة تمس صحة وحياة المستهلك، فمشكلات الغذاء تحمل الكثير من الجدية والخطورة؛ لأنها تضم طيفًا واسعًا من الآثار بدءا بالتفاعلات التحسسية والتسممات الغذائية وانتهاءً بالأمراض المستعصية مثل سرطانات الجهاز الهضمي. وهذا ما يفرض أهمية التحول من نمطية المراكز الرقابية الاعتيادية إلى سمات مختبرات البحوث التطويرية، وكسر الحلقة الزمنية الطويلة بتوجيه الجهود نحو الكفاءة الزمنية وجودة المضمون العلمي، ولذلك بدأ يتنامى الاهتمام بالفحوصات التقنيات الأكثر صلة بتحديد المكونات الغذائية الرئيسية مثل البروتين والسكريات والدهون والفيتامينات وما إلى ذلك بدلا من فحوصات الجودة العامة مثل المحتوى الكلي للمواد الصلبة، مع إيلاء اهتمام خاص للتطور الكبير في تقييم المخاطر المرتبطة باستهلاك الغذاء من خلال توظيف تقنيات النانو والذكاء الاصطناعي والبلوكتشين والبيانات الضخمة التي أحدثت تغيرا تحويليا في الكشف عن الملوثات الغذائية الرئيسية مثل متبقيات المواد العضوية، والمبيدات والسموم والهرمونات، والتلوث الميكروبي، والتقنيات التحليلية المرتبطة بتحليل الكائنات المعدلة وراثيًا في الأغذية، وتحليل الدهون والمُحليات.

وهذا يقودنا إلى السؤال الأول؛ هل تتواكب الابتكارات التكنولوجية الموجهة لرقابة الأغذية مع التغييرات المتسارعة في سلاسل الغذاء بعد أن أصبح إنتاج الغذاء صناعة عالمية؟ فالمنتجات التي يشتريها المستهلك من المتجر الذي يقع بالقرب من منزله هي في الأصل «منتجات مهاجرة» قد تم حصادها ومعالجتها وتعبئتها ونقلها وتداولها في عدة دول مختلفة ومن عدة قارات قبل أن تصل إلى أرفف المتجر، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو سعي المحلات والمنشآت لتسويق منتجاتها عبر الإعلانات الترويجية عن الفوائد الاقتصادية المزعومة، مثل عروض المنتجات الأرخص، أو عروض التوفير وإتاحة الاختيارات الأوسع للمستهلكين، وهذا يشكل تحديات إضافية على المؤسسات المعنية بالرقابة لضمان الجودة والسلامة. خصوصا وأن الأمر قد أصبح أكثر صعوبة لمعرفة الجودة النوعية للمكونات الداخلة في تصنيع هذه المنتجات التي يشملها العرض، أو ظروف تداولها وفترة الصلاحية، مما يستوجب البحث عن ابتكارات أشبه ما تكون بأجهزة الاستشعار الحيوية لتحليل الأغذية وتطوير تقنيات للكشف المبكر عن مؤشرات تدهور الجودة عبر رصد المؤشرات الحيوية المرتبطة بأنشطة بمجموع الكائنات الحية الدقيقة، أو الميكروبات المسببة للأمراض الغذائية، فعلى سبيل المثال تم تطبيق مبادئ علم الأيض بنجاح على بحوث جودة الغذاء، ومع التقدم الجذري في ابتكارات البصمات الكيميائية الفريدة التي تتركها العمليات الخلوية مع ابتكارات التقنيات التحليلية المدمجة بقواعد البيانات الأيضية أمكن اكتشاف وتحديد أكثر من (1000) مستقلب في المنتجات الغذائية كمؤشرات تدهور الجودة والكشف عن التركيزات القليلة للميكروبات المسببة لأغلب حالات التسمم الغذائي، ويُعد ذلك تحولا جذريا في الكشف عن ممارسات الاحتيال الغذائي، والتصدي لظهور سلالات الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، وكذلك في إطلاق الفرص التطويرية لأحدث المنهجيات المبتكرة في تحديد المركبات السامة التي تحفزها تفاعلات مكونات الأغذية مع بعضها البعض، أو مع مواد التغليف الملامسة لها مع طول فترة التخزين، بما في ذلك السموم الطبيعية في المواد الخام الداخلة في التصنيع، أو التي تتسرب للمنتجات الغذائية من مختلف نقاط خط الإنتاج مثل السموم الفطرية.

ومع التطورات التقنية وتغير المشهد العالمي للغذاء فإنه من الأهمية بمكان اتخاذ موقف أكثر استباقية بشأن سلامة وجودة الغذاء، وإعادة النظر في قوانين الغذاء المحلية والإقليمية، وتحديثها حسب المستجدات العالمية، والبحث عن الحلول الرقمية والابتكارية المستدامة لمعالجة التحدي الحاسم في رقابة الغذاء؛ وهو الانتقال من المنهجيات التقليدية إلى الاستراتيجيات التحليلية الجديدة، لإحداث تحسينات جذرية في الدقة التحليلية، وتوظيف الإمكانيات الهائلة للتقنيات المتقدمة مثل التصوير الطيفي الفائق للأشعة تحت الحمراء، وقياس الطيف الكتلي، والرنين المغناطيسي النووي، وعلم التمثيل الغذائي، ومطياف رامان، وتوجيه الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات لتعزيز التحليل العميق لقضايا الغذاء في المستقبل، ودعم الصناعات الغذائية المحلية لتخفيف المخاطر المتعلقة بتعقيدات وطول سلاسل الإمداد تعزيزا للتقدم التكنولوجي في ابتكارات سلامة وجودة الغذاء، والبحوث الانتقالية المستقبلية في علوم الغذاء والتغذية.