على حواف منحنى الجرس

19 سبتمبر 2023
19 سبتمبر 2023

تعالوا نتخيل السيناريو التالي: قائد فريق عمل يبحث عن كفاءة تقنية متمكنة للقيام بدور محوري في مشروع مهم، بعد الاطلاع على السير الذاتية للمتقدمين للشاغر الوظيفي، وقع اختياره على أحدهم، في المقابلة الشخصية تفاجأ بأن الكفاءة التي وقع عليها الاختيار تنتمي إلى شريحة «ذات التنوع العصبي»، هل سيقبل قائد الفريق بضمه إلى فريق المشروع الذي يتشكل من أعضاء مجيدين مهنيا، ولهم حضورهم الاجتماعي داخل وخارج المؤسسة؟ وهل سيبادر بإنشاء ثقافة عمل تقدر التنوع، والمساواة، والشمول؟ سيكون من العسير قطعًا تجاوز حقائق علوم الأحياء التي تؤكد أن الدماغ البشري يحتوي على ما لا يقل عن 86 مليار خلية عصبية، رقمٌ آخر عن خلايا جسم الإنسان، لكنه يأتي تعبيرًا عميقًا لا لبس فيه بأننا جميعًا مختلفون في التفكير، والقدرات، والسلوك، ومن هنا ظهر مفهوم التنوع العصبي ليُستدل به على ذلك الطيف المتباين من القدرات الإدراكية المتعلقة بوظائف الدماغ، وهو مفهوم حديث نسبيا ويغطي حالات متعددة من الموهوبين، مثل التوحد، واضطراب فرط الحركة، ونقص الانتباه، وعسر القراءة، والحساب، وبحسب إحصاءات البنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية لعام 2017 يُشكل الأفراد المتنوعون عصبيا ما نسبته 15% من سكان العالم، أي مليار شخص، ومن المحتمل أن يكون هذا العدد أقل بكثير من الرقم الحقيقي في الواقع، كما تشير التحليلات إلى تدني احتمال توظيف الأشخاص من ذوي التنوع العصبي بمقدار النصف مقارنةً بأقرانهم من ذوي الإعاقات الجسدية، ويتضاعف هبوط الاحتمالات بشكل أكبر حينما تكون المقارنة بينهم، وبين بقية الأشخاص، وهذا ما يجعل من ملف تشغيل ذوي التنوع العصبي موضوعا شائكا وحساسا.

دعونا نبدأ بالمنطلقات الأخلاقية في توفير فرص العمل اللائق لذوي التنوع العصبي، نجد أن المجتمع الدولي قد وضع التدابير الأُممية الداعمة لهذا التوجه، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق ذوي الإعاقة التي تم إقرارها في عام 2006، والتي صادقت عليها 177 دولة حتى الآن، بالإضافة إلى الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة 2030 والذي ينص على «تعزيز النمو الاقتصادي المطرد، والشامل، والمستدام، والأيدي العاملة الكاملة، والمنتجة، وتوفير العمل اللائق للجميع»، كما تسعى التشريعات الوطنية في معظم دول العالم لتحقيق هذا الهدف، إيمانا منها بأن العمل اللائق سواءً كان بالوظيفة، أو المهنة، أو ريادة الأعمال هو عامل محدد، ومهم لتقدير الذات، وبناء حلقة الوصل بين الفرد، والمجتمع، وهذا ما تؤكده منظمة الصحة العالمية (WHO) في تصريحها بأنه «على الرغم من صعوبة قياس تأثير العمل وحده على الهوية الشخصية، واحترام الذات، والاعتراف الاجتماعي، إلا أن معظم المتخصصين في مجال الصحة العقلية يتفقون على أن بيئة العمل يمكن أن يكون لها تأثير كبير على السلامة العقلية للفرد»، وهذا يشمل الجميع، إلا أن تأثيره على ذوي التنوع العصبي أكثر عمقا، فالعمل بالنسبة لهذه الشريحة بمثابة الهيكل الزمني الذي ينظم تفاصيلها اليومية، ويوفر لها الاتصال الاجتماعي الذي يخفف الإحساس بالإقصاء، ويبث فيها حس الغاية والهدف، ويمنحها هُوية اجتماعية مختلفة عن الإعاقة التي تميزها، مما يساهم في تحقيق الذات، والاستقلال المادي الذي يكفيها الاعتماد على المُعيل، أو على دعم نظم الحماية المجتمعية، وهي كلها عوامل أساسية في تحسين جودة الحياة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تستفيد المؤسسات، وفرق العمل في المقابل من توفير فرص العمل اللائق لذوي التنوع العصبي، أم أنها مجرد ممارسة من باب التطوع، والعمل الخيري فحسب؟ وماذا تقدم لنا الشركات التي طبقت برامج التوظيف المعتمدة على التنوع العصبي من دروس مفيدة وملهمة؟ تشير المراجعات المعيارية للتجارب السابقة إلى أن التحسينات الجوهرية في قدرات الابتكار، والإبداع التنظيمي، والمؤسسي التي يفترض أنها محورية لإكساب الميزة التنافسية نشأت في كثير من الأحيان عن وجود الموهوبين من ذوي التركيبة العصبية المتباينة في مواقع تطويرية مكنتهم من إيصال مساهماتهم الفريدة إلى مستوى متخذي القرار، فمنذ أكثر من عقدٍ من الزمن بادرت شركات بارزة بتغيير عمليات التوظيف التقليدية، واستبدالها بأساليب حديثة تعتمد بشكل كبير على ضمان الشمولية، وذلك بالتقليل من المقابلات الشخصية التي قد تعيق توظيف الموهوبين من ذوي التنوع العصبي، جاءت هذه المبادرات مدفوعة بواقع ندرة مجموعة من المهارات والكفاءات المحددة، وتداخلها في ذات الوقت وبشكل ملحوظ مع المواهب التي يمتلكها بعض الأشخاص المتنوعين عصبيًا، وعليه فإن وجود هذه الشريحة في المواقع المتوافقة مع قدراتها يحقق فوائد مباشرة في رفع الإنتاجية، وجلب وجهات نظر جديدة كليا إلى المؤسسة، وأفكار مبتكرة، ومهارات غير تقليدية في حل المشكلات، والأمثلة عديدة على الشركات التي أدركت مبكرا أهمية التنوع والشمول في سياق التنوع العصبي، مثل شركة ميكروسوفت Microsoft، ودي أكس سي تكنولوجي DXC Technology، وشركة أرنست ويونغ Ernst & Young EY، ومصرف مورجان JPMorgan Chase، وشركة فوورد Ford، فالقدرات التي يمتلكها المصابون باضطرابات طيف التوحد في إكمال المهام الصعبة، والمتكررة، وذات التفاصيل، يفتقر إليها الكثيرون من حيث الصبر والتركيز، ناهيك عن ميلهم للعمل في مجالات الحاسوب، والبرمجة، والتقانة، ويمتلك الأشخاص الذين يعانون من عسر القراءة قدرة هائلة على التفكير البصري، مما يجعلهم مناسبين في دعم متخذ القرار بناءً على رؤية الصورة الكاملة للتحديات، والمشكلات، ويمتلكون أيضا مهارات في مجال ريادة الأعمال المتعلقة بالإبداع، كما أن المصابين باضطراب فرط الحركة، ونقص الانتباه يمتلكون موهبة أداء المهام المتعددة بسهولة، والعمل بشكل أفضل في ظل ضغوطات العمل، كما أنهم أكثر عرضة لانتهاج الإبداع والتجديد، والتفكير غير النمطي، إذا حصلوا على الحافز المناسب الذي يمكنهم من التركيز.

أحد أشهر الأمثلة العالمية على إعادة التفكير بنهج ابتكاري في طريقة التوظيف الداعمة لتضمين التنوع العصبي في القوى العاملة، تقوم على استبدال مقابلات العمل الرسمية بورشة عمل تطبيقية لاكتشاف مدى المطابقة لمتطلبات الوظيفة بمحاكاة بيئة العمل، وذلك انطلاقًا من حقيقة أن استخدام الأساليب التقليدية لا تجدي نفعا في تقييم ذوي التنوع العصبي، وفي هذه الطريقة المستحدثة يُطلب من المتقدمين ملء استبانة لإدخال اهتماماتهم، وخبراتهم خارج العمل، بدلاً من تقديم السيرة الذاتية والمشاركة في مقابلات العمل القياسية، وبعد فحص طلباتهم وتحليل الاستبانة، تتم دعوة المرشحين الذين تتطابق مهاراتهم وهواياتهم مع الوصف الوظيفي للشاغر إلى ورشة العمل الاستكشافية داخل المؤسسة، والتي تحاكي يوم العمل، وتتضمن إكمال عدد محدد من المهام، والتعامل مع مجموعة من التحديات والعقبات، ويتم تصميم هذه المحاكاة بعناية لتعكس القدرات الحقيقية للمتقدمين، وتسمح بتحديد نقاط القوة والضعف لديهم، وبالتالي يتحول التركيز من المهارات العامة المطلوبة للتوظيف إلى تحليل السمات الشخصية، والكفاءات المحددة، واللازمة لإنجاز العمل، وبذلك تتيح هذه العملية للمؤسسة فرصة الوصول إلى مجموعة من المواهب غير المستغلة.

وعلى نطاق أوسع، وربما على سبيل التخمين، فإن الابتكارات المستقبلية في عالم الأعمال ستأخذ أشكالا غير مألوفة، لأن قيادة التطوير سيقوم بها الموهوبون «على حواف منحنى الجرس»، وكما يزعم علماء ومفكرو التنوع البيولوجي أن التنوع الفطري هو عامل حاسم، وحيوي لبقاء الإنسان على وجه كوكب الأرض، فالتنوع العصبي بالمثل هو أحد أشكال التنوع البشري، وإدماج هذه الشريحة في العمل والإنتاج لا يقل أهمية عن العوامل الأخرى الداعمة للنجاح، وما تواجهه المؤسسات في الوقت الراهن من قلة الاستغلال الأمثل لهذه المواهب، وتسخير قواها الإبداعية والابتكارية وراء هذا التباين العصبي لا تكمن في القيود التي يفرضها الأشخاص على أنفسهم، مثل التردد في البحث عن فرص العمل، والميل للانعزالية، ولكن المشكلة الحقيقة عميقة في آليات الكشف عن المواهب المتفردة التي هي نواة الإبداع، فالنظم الحالية لا تستوعب السمات والأساليب غير النمطية للموهوبين، وتنظر إلى التنوع العصبي على أنها قيود وظيفية، بدلا من التركيز على ترسيخ أنماط الإدارة القادرة على إدارة هذه المواهب، فالمعيار الافتراضي أو المثالي في سياق العمل لا يعرف غالبًا سوى فئتين؛ «معوق» و«غير معوق» مما يؤدي إلى إخفاق محاولات التضمين والشمولية وإن بدت ظاهريا وكأنها قائمة وناجحة.

على المؤسسات الاعتراف بالتنوع العصبي باعتباره ميزة تنافسية من منطلق قيمة رأس المال البشري كمورد فريد، وغير قابل للاستبدال، مع إعادة النظر في التنوع العصبي كهدف استراتيجي يستوجب التخطيط السليم، وإعادة فهم الشمول، وتعديل الممارسات التنظيمية التي تعمق التأثير الإقصائي لهذه الشريحة، والناجمة عن قوالب التفكير النمطية، والمواقف السلبية تجاه التنوع العصبي، مما يستوجب اتباع نهج دقيق ومدروس في تشجيع التنوع العصبي في بيئات العمل بتقليل المسافة الاجتماعية بين مختلف الفئات، وإظهار الأثر الإيجابي لهذا التنوع، مع الأخذ في الاعتبار معالجة القيود، والمخاطر المحتملة للتصورات العكسية المرافقة، فترسيخ الشمول والتنوع غاية ليست سهلة المنال.