عقوبات أمريكا والاتحاد الأوروبي ضد روسيا تقسم العالم

03 يناير 2024
الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز
03 يناير 2024

إن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، وخاصّة المنافسة المتنامية بين الولايات المتحدة والصين، هي المحفّز الرئيسي لحالة الانقسام التي يعرفها الاقتصاد العالمي. والصين، التي فرضت نفسها كأول اقتصاد مصدّر على مستوى العالم منذ ما يزيد عن عشرة أعوام تجاوزت منذ عام 2016 الولايات المتحدة باعتبارها أكبر اقتصاد عالمي (على أساس تعادل القدرة الشرائية).

وفي الوقت نفسه، أدّى تراجع الوظائف المتاحة في قطاع الصناعة الأمريكية، الذي يُعزى جزئيا إلى زيادة الواردات القادمة من الصين، إلى تأجيج مشاعر الاستياء من العولمة لدى الأمريكيين وتغيير نظرتهم إلى منافسهم الآسيوي.

وبينما كان العديد من المحلّلين الغربيين يتوقّعون أن تؤدي زيادة المبادلات التجارية مع الصين إلى وضعها على الطريق نحو التحوّل الديمقراطي، مضت البلاد في الاتجاه المعاكس في عهد الرئيس شي جين بينغ. وبدلا من السير نحو مزيدٍ من التحرير واستكمال الإصلاحات الداعمة لاقتصاد السوق، دفع السيد شي بالصين نحو نظامٍ مركزي يستند أكثر على الدولة ويسيطر عليه الحزب الشيوعي الصيني.

لقد تفاعلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع هذه التطورات بشنّ حرب تجارية مع الصين، وهي خطوة يُنظر إليها خارج الولايات المتحدة باعتبارها انحرافا حمائيا يعكس أجندة (أميركا أولا) التي يتبنّاها ترامب. لكن إدارة الرئيس جو بايدن نفسه قد أبقت على الرسوم الجمركية كما كانت في عهد سلفه.

لا ينبغي أن يكون هذا بمثابة مفاجأة لأحد. يبدو أن الإجماع الأميركي الجديد بشأن الصين هو: «كلما زادت تجارتنا معهم، كلما زاد استخدامهم لذلك ضدّنا». لقد أصبحت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين جزءا من استراتيجيةٍ جيوسياسية أمريكية أوسع نطاقا، ويدعمها كل من الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس. ويقع في قلب هذه الاستراتيجية ما اصطُلح عليه بفكّ الارتباط التكنولوجي، الذي يتضمن الحدّ من صادرات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين وتقييد استخدام المعدّات والتجهيزات المصنّعة في الصين داخل الولايات المتحدة.

وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، تبنّى الاتحاد الأوروبي رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن «الاستقلالية الاستراتيجية». فمن خلال تأمين الوصول إلى المدخلات والمواد الخام الأساسية، يستطيع الاتحاد الأوروبي ردع الدول المعادية والحيلولة دون استخدامها للتجارة كسلاح. لقد أدّى استخدام روسيا لصادراتها من النفط والغاز الطبيعي كأداة استراتيجية ضد الاتحاد الأوروبي عقب غزوها لأوكرانيا، إلى جانب تعميق العلاقات بين الكرملين والصين، إلى الدفع بالاتحاد الأوروبي نحو تكثيف جهوده من أجل حماية القطاعات الأساسية من خلال تقليل اعتماده على هذين البلدين.

وعلاوة على ذلك، ارتفع عدد متزايد من الأصوات داخل المفوّضية الأوروبية وبين الدول الأعضاء لدعوة الاتحاد الأوروبي إلى الاقتداء بالولايات المتحدة والسير على خطاها بالحدّ من صادرات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين وبتقليل الاعتماد على التكنولوجيات الصينية داخل أوروبا. تنطوي هذه الاستراتيجية على مخاطر كبيرة، حيث قد تردّ الصين بخطوات انتقامية من خلال تقييد صادراتها من المواد الخام الضرورية لصنع أشباه الموصلات المتطورة والطاقات المتجددة. إن الصين، التي تمثل 98% من الإنتاج العالمي للغاليوم (gallium) وتتحكم في 68% من إنتاج الجرمانيوم (germanium) في بلدان مختلفة، قد أقدمت بالفعل على تقييد صادرات هذه المدخلات الأساسية اللازمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية، وذلك كردّ فعل على إقرار قانون الرقائق والعلوم في الولايات المتحدة خلال صيف عام 2022، الذي أدّى إلى تقييد صادرات التكنولوجيات الأمريكية نحو الصين.

فرضت الصين مؤخرا قيودا على تصدير الغرافيت، وهو معدن يُستخدم في التكنولوجيات الخضراء ويأتي بشكل رئيسي من البلاد. ولقد خضع حوالي 30% من المواد الخام الأساسية في العالم لمثل هذه القيود في عام 2022، مقارنة بـ 5% فقط عام 2019.

وتشكّل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا عاملا مهما آخر في حالة الانقسام التي يعرفها العالم حاليا. لقد أدّت هذه الإجراءات بالفعل إلى إعادة تشكيل خرائط التجارة الإقليمية، مما انعكس من خلال تسجيل انخفاضٍ حاد على مستوى صادرات السلع من أوروبا والولايات المتحدة بسبب العقوبات، وبالنظر إلى المخاطر المتعلقة بالسُّمعة في حال الاستمرار في التجارة مع روسيا. وعلى الرغم من أن جزءا من هذه المبادلات التجارية قد وجدت طرقا أخرى من خلال المرور عبر آسيا الوسطى والقوقاز، إلا أن أحجامها لا تزال منخفضة نسبيا.

يلعب هذا التحوّل الملحوظ على مستوى الدينامية التجارية دورا مهما في انقسام الاقتصاد العالمي. فعندما انسحب المصدّرون الغربيون من السوق الروسية، على سبيل المثال، زادت الصادرات التركية نحو روسيا بشكل قوي. كما زادت في الوقت نفسه صادرات الصين إلى روسيا، وخاصة المنتجات الخاضعة للعقوبات الأوروبية.

وما من مؤشّر حتى الآن على أن التوترات الجيوسياسية في العالم على وشك أن تهدأ، حيث أن الأحداث المأساوية التي يشهدها الشرق الأوسط لن تؤدي إلا إلى تفاقم حالة الاستقطاب على مستوى العالم.

وفي حين أن الطابع الاستعجالي للأزمة المناخية يتطلّب تعاونا دوليا وثيقا وغير مسبوق، فإن حالة الانقسام التي يعرفها العالم تشكّل أيضا تهديدا خطيرا لصحة الكوكب ولمستقبل البشرية جمعاء.

وفي هذا السياق، يؤدي احتدام الصراعات التجارية، وتسارع حالة الانقسام الجيوسياسي العالمي، والقيود المفروضة على تصدير المواد الخام الأساسية، إلى خفض الثقة بين الدول، وعرقلة التعاون بينها، وتقويض الجهود الرامية إلى مكافحة التغير المناخي بشكل فعّال.

بياتا جافورشيك كبيرة الاقتصاديين بالبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية

عن صحيفة لوموند الفرنسية