عقدٌ اجتماعي مرن للتعليم

25 يونيو 2022
25 يونيو 2022

شرفتُ بحضور بعض جلسات ندوة التعليم في سلطنة عمان 2022 «نحو تعليم مستدام، ومعزز لمهارات المستقبل» التي جرت الأسبوع المنصرم بمشاركة الأطراف المؤسسية الفاعلة في قطاع التعليم والتعلم. تأتت الندوة في سياق دعوات عالمية تتوالى بإعادة النظر إلى واقع النظم التعليمية ما بعد الجائحة لتشخيص راهنها والتغيرات الجذرية التي أحدثتها الجائحة على مستوى الوصول للنظم التعليمية، وعلى مستوى فاقد التعلم، وعلى مستوى قدرة النظم التعليمية على الديمومة، وعلى مستوى تأثر المؤشرات الرئيسية للتعليم بالأوضاع التي خلقتها الجائحة عمومًا. وكان السؤال الذي يتبادر إلى ذهني في نقاشات الندوة حول ماهية الكيفية التي يمكن من خلالها المضي قدمًا لبناء نظم تعلم مرنة أكثر استيعابًا للمتغيرات وأكثر احتواء للمخاطر وأكثر قدرة على سد فجوات التعلم الحالية القائمة.

استعرضت الندوة في مطلعها تقرير اليونسكو الذي استصدر مؤخرًا عبر اللجنة الدولية لمستقبل التعليم بعنوان: "إعادة تصور مستقبلنا معًا: عقد اجتماعي جديد للتعليم". والذي يحدد المتطلبات الرئيسية لمستقبل التعليم والتعلم بعد الجائحة. والذي يشير في حوصلته إلى أن العقد الاجتماعي الجديد للتعليم يجب أن يبنى على مبادئ «الإدماج والإنصاف والتعاون والتضامن» فضلًا عن «"المسؤولية الجماعية والترابط» وأن يخضع لمبدأين أساسيين هما «ضمان الحق في التعليم الجيد مدى الحياة» و«تعزيز التعليم كمسعى عام وكعملية إصلاح مشتركة». وليس غريبًا أن تكون الدعوة إلى النظر إلى التعليم بعد الجائحة هي دعوة نظر إلى عقد اجتماعي عام وذلك في تقديرنا يعود إلى ثلاث محكات أساسية:

- أولها: الكلفة الاقتصادية التي أحدثتها الجائحة على مستوى أجيال التعلم: ففي تقرير «حالة أزمة التعليم العالمية: طريق إلى التعافي» يشير التقرير إلى أن الجيل الحالي من الطلبة قد يخسرون 17 تريليون دولار من أرباحهم مدى الحياة بالقيمة الحالية، بما يعادل 14%من الناتج المحلي الإجمالي العالمي اليوم، بسبب إغلاق المدارس والصدمات الاقتصادية المرتبطة بـCOVID-19 وهو ما يعني أن الآثار الهيكلية للجائحة إنما تتعمق في تشكيل البنى الاجتماعية عبر المستقبل من خلال تقويض الفرص الاقتصادية وإعادة هيكلة أنظمة الإنتاج والتنافس على الفرص والحصص من الناتج المحلي الإجمالي ومستوى القدرة على الصمود أمام الأزمات المالية والاقتصادية متوسطة – بعيدة المدى الناجمة عن الجائحة. وعليه فإن إعادة التفكير في العقد الاجتماعي إنما هو إعادة تفكير في خلق جيل قادر على تعويض كل ذلك عبر مهارات جديدة وشق أسواق وفرص اقتصادية مبتكرة وإعلاء قيمة الإنتاجية وتسريع وتيرة التعلم وتعويض الفاقد المهاري.

- ثانيها: الكلفة الاجتماعية التي أحدثتها الجائحة: يشير ذات التقرير أعلاه إلى أنه في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، يمكن أن تزيد نسبة الأطفال الذين يعيشون في فقر التعلم من %50 قبل الوباء إلى 70% ما بعده. وهذا في تقديرنا لا يعني مجرد تأخر عن مواكبة رحلة التعلم بقدر ما هو تغير جوهري في الأدوار والتوقعات الاجتماعية. كيف يمكن للأسرة مثلًا أن تعوض مؤسسة اجتماعية هيكلية كمؤسسة التعليم ليس فقط في أدوار إكساب المعرفة وإنما في نسق المعايشة وتنمية المهارات والبحث والتكيف مع الأقران وهندسة جدول الحياة اليومية للمتعلمين والحماية من التشظي الاجتماعي وغيرها من الأدوار الأساسية التي ترتبط بسياق مجتمع التعلم.

- ثالثها: أن سلسة المخاطر لا متناهية. ليس هنا الحديث عن تكهنات بشأن أوبئة قادمة فحسب ولكن الحديث عن عالم مشتبك المخاطر من تغير المناخ إلى أزمات التضخم التي قد تقوض قدرات الأسر في الدول منخفضة الدخل على دفع أبنائها إلى التعلم من الأزمات السياسية والمجتمعية التي تنعكس على الفاعلين عمومًا في حقل التعليم. وفي تقرير العقد الاجتماعي للتعليم -المشار إليه- يقول التقرير: «الكوكب في خطر رغم جهود إزالة الكربون وتخضير الاقتصادات، وهنا لابد أن يقود الأطفال والشباب الطريق بالفعل ويؤسسون لإجراءات هادفة لمواجهة خطورة الوضع». وهذا يعني أن العقد الجديد للتعليم يعني بعدين أساسيين في نظرنا: أنه تعليم يتأسس على مفاهيم الاستدامة ويستوعب في مضامينه المخاطر ويكيف المتعلمين على التعاطي معها وإداراتها واستشرافها. والبعد الآخر أنه يكون مرتكزًا للتغيير المجتمعي المنشود نحو جهود التخضير ودرء المخاطر المناخية والبيئية عبر مساهمته في تغيير أنماط التفكير والتدبير التي ترسخها المؤسسة التعليمية لدى كل منزل / أسرة تتعامل معها وتستفيد وتتفاعل مع مخرجاتها.

إذن وسط كل ذلك إلى ماذا ندعو على المستوى الوطني؟

وهنا نرى بضرورة التوجه نحو وضع (إطار وطني للتعليم والتعلم المرن) فكرة هذا الإطار هو النظر في كل المؤسسات والأطراف ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بعملية التعليم والتعلم وإعادة هيكلة النظم والسياسات واللوائح التي تمكن من بناء رحلة تعليمية أقل عرضة لتأثير المخاطر والتحديات (مدى الحياة). يمكن أن يكون ذلك في شكل أنظمة جديدة للاعتراف الأكاديمي ويمكن أن يكون في شكل مبادرات وطنية لرفع قدرة الأسر على تعويض الفاقد التعليمي ويمكن أن يكون كذلك في بناء منصات وطنية (دائمة) للاكتساب التعليمي والمهاري لا تتعامل فقط مع حالات الاضطرار إلى "التعلم عن بعد". ويمكن أن ينطلق وضع هذا الإطار من تشخيص علمي وطني للفاقد التعليمي والاقتصادي المحلي الناتج عن الجائحة والاستفادة من تجارب الدول المماثلة في ذلك. فكوريا الجنوبية على سبيل المثال طورت ما يُعرف بـ "The Academic Credit Bank System (ACBS)" وهو نظام تعليمي مفتوح يمكن كافة المواطنين من اكتساب رصيد تعلم عبر خبرات التعلم خارج المؤسسة التعليمية وداخلها اعتمادًا على ابتكار فرص التعلم ومؤسساته وتعديدها وتخفيف مركزيتها. ويعمل النظام بطريقة جمع النقاط/ رصد التعلم لكافة الأفراد لضمان دورة التعلم عبر مسار الحياة.

يزخر العالم بتجارب موازية والأصل فيها أن يكون التعلم مدى الحياة فلسفة النظام التعليمي. وأن يتم تقاسم الأدوار وتوزيعها بالشكل الأمثل. ويتعلق الأمر بالقابلية والجاهزية وإرساء نهج "تعلم التعلم" لدى التلاميذ في مراحل التعليم المبتدئة وعدم التعامل مع الخيارات المتاحة عبر التعلم الإلكترونية بوصفها "ضرورة آنية" أو "مرحلية" ولكن بوصفها سياقًا تحوليًا سيفرض واقعه على كافة نظم التعليم عاجلًا أم آجلًا.