عطشُ الروحِ.. سُقْيا الذاكرة

19 سبتمبر 2021
19 سبتمبر 2021

للواقع قدرة مدهشة على صنع دراما حقيقية لا ينقصها أي عنصر أو مؤثرات، كل ما علينا هو إمعان النظر والتدبر.

هذا ما فكرت به حينما حمل إليّ القدر قصة واقعية جديدة.

رجل ستيني نقش الحزنُ لا الزمن علاماته على ملامحه، كان يبدو أكبر مما هو عليه حقيقة، لثقل ما يحمل وما تحمّل.

أدخلته أختي منزلنا حين التقت به تائها جوارنا، ظامئا يطلب الماء حثيثا، لعلها لم تقتنع حينها أن الماء بغيته، أو ربما كان يبغي ماء يروي قلبه لا جسده؛ أدركت ذلك حينما أعطته زجاجة ماء من محل قريب، فلم يشرب، بقيت الزجاجة في يده وهو يكرر طلب الماء!

قالت لي: تعالي للمجلس، حالة إنسانية!

ظننتها مازحة، فكثيرا ما كانوا يتندرون على حساسيتي المفرطة تجاه الحالات الإنسانية.

ذهبت معها لأجده ووالدي يشربان القهوة وينشدان الشعر، أردت أن أعرّف والدي - الذي دخل فوجد الضيف - على الرجل لكني لم أكن أملك ما أقول، إذ أنني بالكاد أعرفه، لكن لغة سرية بيني وبين والدي جعلته يدرك ما أبغي دون كثير شرح، خصوصا والضيف بيننا.

أخذ الضيف ووالدي يتبادلان الحديث وبعض أبيات من الشعر الشعبي، يبدو أنها ذاكرة مشتركة بينهما رغم عدم معرفة أي منهما بالآخر.

خلال هذه السانحة في الذاكرة، لم يتذكر الضيف اسمه، لكنه تذكر تفاصيل لأماكن سكنها أو سكنته، وهي لا تبدو قريبة أبدا، إذ لم نتعرف على أي منها.

ذكر أقارب وأحباب، وحاولنا سؤاله عن أولاده لنتعرف على مكانه ونساعده للوصول إليه: هل لديك أولاد؟ أخذته ضحكة هادئة، ورد قائلا: لا أولاد لدي، ثم أردف: انتهت صلاحيتي! ليتابع ضحكته.

كان واضحا لنا جميعا أن الرجل مصاب في ذاكرته، وأنه يحاول جاهدا التقاط ما وجد في وعاء عقله من ذكريات، ليضعها بيننا، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

كان الأهم بالنسبة لنا ذكر اسم نستطيع الاستدلال به على شخصه، ثم تمكينه من الوصول لبيته وعائلته، لم يكن يتذكر سوى اسم سيدة يبدو أنها زوجته الجميلة الطيبة، وبعض أبيات من الشعر:

سيلٍ سقى وشرّق

ينعاني ذا الريم

لي من غضا وبرّق

ظنّ والدي أن الضيف يعاني من شدة الحر في صيف ملتهب، وربما أصابته ضربة شمس خالطت قدرته على التذكر، وبمجرد الراحة سيستعيد ذاكرته، قرر أن يبقى الضيف حتى قبيل المغرب ليجوب به طرقات وأحياء المدينة عله يتذكر مسكنه أو أهله، وقد كان ما أراد، ليستغرق مع الضيف وقتا طويلا دون جدوى في أن تعود الذاكرة، لكنه ارتاح لمشاركته الحديث والمكان.

في الليل اضطررنا للإبلاغ عن الضيف خشية أن يكون أهله في قلق عليه، فبدأ إخوتي اتصالاتهم لنكتشف أن الضيف مصاب بمرض (الزهايمر) وهو مقيم في المستشفى لوحدته، ولعدم وجود من يعتني به وهو على حاله تلك.

فما هي الأماكن التي ذكرها إذا، والأشخاص الذين سرد ذكرياته معهم؟

كان مقيما في بلد قريب، وكل تلك الذاكرة البعيدة أحضرها معه من هنالك، كان قد جمع الكثير من المال، ثم تزوج هناك دون أن يرزقه الله بأطفال، وبعد عقود حين ضعفت ذاكرته وتأثرت صحته تخلت عنه زوجته بعد أن جردته من ماله لتتركه في أقرب مدينة في بلاده، لتمضي هي والمال، ويبقى هو وبقايا ذاكرته، يختار الأجمل منها وينسى آلامها، يجتر وحده ما ترسب من أسماء وحنين وأغان وقصائد.

عاد للمستشفى، وكنت قد عقدت العزم على زيارته في مقره ثاني أيام العيد، الذي لم يكن حينها بعيدا، ولم الثاني تحديدا ؟ أردت له مشاركتنا بعض الفرح عبر وجبة « الشواء « الشعبية التي تعودنا عليها في العيد، ظنا بأن ذلك قد يشعره ببعض دفء العائلة.

ليلا، أتواصل مع المستشفى لأنسق للزيارة فأتفاجأ بخبر صادم (وُجد الرجل ميتا في بيت قيد الإنشاء قريب من المستشفى، وهو متسلل من إقامته بالمستشفى كعادته، باحثا عن الماء من جديد، لكن دون أن يجد ماء أو سقاة أو حتى سمّار هذه المرة)

قضى عليه العطش والحر، وربما الوحدة والحنين في يوم يحتفي خلاله الجميع بالقربى والأحبة والذكريات.

ترى: هل قتله الظمأ فعلا؟ أم قتله النسيان؟ بل الأصعب من ذلك ربما قتلته نصف الذاكرة التي لم يعد قادرا على استدعائها لتجمّل قبح النصف الأخير؟

رحل الغريب عن مديتنا التي لم تكن مدينته، وعن ذاكرتنا التي لم تكن ذاكرته، وما زال صوته يتردد:

سيل سقى وشرّق

تنعاني ذا الريم

لي من غضا وبرّق