عزل أوروبا عن روسيا

25 ديسمبر 2022
25 ديسمبر 2022

تدخل أوكرانيا سنة 2023 وهي تحقق نجاحات، وعلى عكس كل التوقعات تمكنت أوكرانيا من صد الهجوم الروسي الأولي من أجل الاستيلاء على كييف وتمكنت من استعادة مناطق شاسعة حول خاركيف وخيرسون كما كبّدت القوات الغازية خسائر فادحة، وبعد أن أطلقت عليه مجلة بوليتيكو لقب أقوى شخص في أوروبا، عبّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي عن روح التفاؤل بالنسبة للشتاء حيث توقع أن الأوكرانيين سوف يستمتعون "بزمن السلم" بحلول العام القادم.

ومع ذلك، وكما أشار وزير الخارجية البولندي السابق راديك سيكورسكي فإن من الصعب تخيل حل وسط قد يؤدي لإحلال السلام. إذا أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تظل أوكرانيا "غير منحازة"، فسيتعين عليه الانسحاب من جميع الأراضي الأوكرانية مما يعني الاعتراف فعليًا بالهزيمة. لكن هذا لن يكون مقبولاً على الاطلاق بالنسبة له. وبالمثل فإن من غير المرجح أن يفكر زيلينسكي في التنازل عن أي أراضي أوكرانية ما لم تُعرض على أوكرانيا أيضًا عضوية الناتو، ونظرًا لإن من غير المرجح ان تتحقق مثل تلك السيناريوهات، فإن من المتوقع أن يستمر الصراع لفترة طويلة. مع تراجع احتمالية تحقيق نصر عسكري روسي، أصبح بوتين يركّز على كسر وحدة التحالف الغربي الذي يدعم أوكرانيا ويزودها بالإمدادات، وعليه فهو منخرط في "صراع شامل" يتجاوز ساحة المعركة بحيث يشمل هجومًا متعدد الجوانب ضد الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال فإن من الواضح أن التكتيكات الروسية في أوكرانيا بما في ذلك الهجمات المستمرة الأخيرة على البنية التحتية المدنية مثل محطات الطاقة تهدف إلى جعل الحياة في أوكرانيا لا تطاق بشكل متزايد مما يؤدي الى موجة أخرى من اللاجئين الذين يتدفقون على دول الاتحاد الأوروبي علمًا إن 30٪ من الأوكرانيين عاطلون عن العمل كما طلب زيلينسكي من اللاجئين عدم العودة هذا الشتاء - وهي علامة تنذر بالسوء. إن 14 مليون أوكراني الذين تشردوا هذا العام يمثلون أكبر عدد من اللاجئين في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كما ان الثمانية ملايين الذين فروا الى الاتحاد الأوروبي جعلوا "أزمة اللاجئين" " لسنة 2015 لا تكاد تذكر مقارنة بهذه الأزمة. إن سخاء الأوروبيين تجاه اللاجئين الأوكرانيين يثير الأعجاب ولكن السؤال هل سوف يستمر؟ إن عدد اللاجئين في بلدان مثل بولندا مرتفع للغاية - 8٪ من سكان البلاد ولدوا خارج الأراضي البولندية - لدرجة أن بعض المعلقين يشيرون إليها الآن على أنها "دولة ثنائية القومية". سيكون لهذا التحول الحاصل في بولندا أي من بلد يهاجر سكانها منها إلى بلد يستقبل المهاجرين تداعيات عميقة. لقد أنفقت بولندا بالفعل على استضافة اللاجئين أكثر من ضعف ما أنفقته على تقديم المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية لأوكرانيا، وهي ليست وحدها في هذا الخصوص فألمانيا بدورها استقبلت حتى الآن أكثر من مليون أوكراني.

بالإضافة إلى استخدام الهجرة كسلاح، سوف يستمر بوتين أيضًا في استخدام إمدادات الطاقة لإضعاف عزيمة الغرب وإمدادات الغذاء والأسمدة لاكتساب النفوذ السياسي على المستوى الدولي. لقد أظهر تحليل حديث لمجلة الإيكونوميست أن ارتفاع الأسعار الناجم عن حرب الطاقة التي شنها بوتين قد يتسبب في أكثر من 100000 حالة وفاة إضافية في جميع أنحاء أوروبا هذا الشتاء وربما يتجاوز هذا العدد إجمالي عدد القتلى في ساحة المعركة حتى الآن.

بالإضافة الى ذلك فإن التضخم وهو نتيجة مباشرة لحرب الطاقة التي شنها بوتين في أوروبا، من المحتمل ان يساهم في عدم الاستقرار السياسي حول العالم وذلك من خلال زيادة الضغط على الاقتصادات التي كانت تعاني بالفعل بسبب النمو المنخفض ونقص العمالة وآثار النزاعات التجارية المستمرة. سوف يستمر بوتين من أجل تعميق آثار حرب الطاقة التي شنها في استخدام التخريب والهجمات السيبرانية لتقويض البنية التحتية الحيوية مثل خطوط الأنابيب والكابلات البحرية والسكك الحديدية وشبكات الاتصالات، كما سيكثف جهوده للتنافس على النفوذ وتشتيت انتباه صانعي السياسة الغربيين في المناطق ذات الأجواء المشحونة مثل غرب البلقان والشرق الأوسط وأفريقيا.

إن الهدف من كل هذه الحيل هو سياسي أكثر منه اقتصادي. يعتقد بوتين أن أفضل طريق - وربما الوحيد – لتحقيق النصر يكمن في تفتيت الغرب، فمن خلال المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الحيل، يستخدم الكرملين جميع الأدوات المتاحة له للتدخل في السياسة الأوروبية واستغلال الانقسامات عبر ضفتي الأطلسي. لقد كانت وحدة ضفتي الأطلسي وما تزال حيوية لبقاء أوكرانيا ولأمن أوروبا بشكل عام، لكنها ستتعرض لضغوط متزايدة ففي الولايات المتحدة الأمريكية تشكو قوى سياسية من اليمين واليسار من الالتزام المالي الكبير بشكل غير متناسب لبلدهم تجاه الأمن الأوروبي والأوكراني. علاوة على ذلك، هناك خلاف عميق حول ما يجب أن يتبع نجاحات أوكرانيا في ساحة المعركة أي كيف ستنتهي عليه الأمور. يجب على الاتحاد الأوروبي من أجل مواجهة هجوم الكرملين متعدد الجوانب ألا يحافظ على وحدته فحسب، بل يجب عليه أيضا زيادة دعمه لأوكرانيا لإظهار أن أوروبا لا تسعى للحصول على المساعدة المجانية كما يجب عليه ان يبدأ في صياغة سياسة مشتركة طويلة الأمد تجاه روسيا. لن يكون ذلك سهلاً نظراً للثقة المتدنية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية. سوف يتعين على دول أوروبا الغربية على أقل تقدير التخلي عن حلم بناء هيكل أمني أوروبي يشمل روسيا ففي هذه المرحلة لا يمكن تحقيق نظام أوروبي مستقر إلا في مواجهة بوتين وليس بالشراكة معه، وفي الوقت نفسه ستحتاج دول المواجهة مثل بولندا لقبول حقيقة أنه حتى في حالة وجود نظام أمني أوروبي موجه ضد روسيا، فإن عليه الحفاظ على القنوات الدبلوماسية للمحادثات حول بعض القضايا.

يلعب كل من التصعيد والدبلوماسية أدوارًا مهمة في استدامة الدعم الشعبي لمساعدة أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا، لا سيما في تلك البلدان التي تشعر بأن التهديد المباشر عليها من الكرملين أقل. يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى حزمة شاملة من السياسات - تتناول كل شيء وذلك من الطاقة والهجرة إلى البنية التحتية الحيوية والسياسة المحلية - للدفاع عن نفسه ضد صراع بوتين الشامل. لقد وقف الأوروبيون صفًا واحدة بطرق جديدة لمواجهة أزمة جائحة كوفيد-19. أما الآن فيجب عليهم القيام بذلك مرة أخرى لتطوير مناعة القطيع ضد العدوان والضغط والخداع الروسي.

• مارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب "عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال بالصراع".

** خدمة بروجيكت سنديكيت