عرَب المَهجَر

26 سبتمبر 2023
26 سبتمبر 2023

أقصد بعرب المهجر أولئك العلماء والمفكرين والأدباء الذين هاجروا إلى الغرب وعاشوا فيه معظم حياتهم أو عملوا في مؤسساته لفترات طويلة من العمر، فعاد منهم من عاد وعاش فيه من عاش حتى الممات. أولئك كانوا من المساهمين بقوة في نهضة العلم والثقافة العربية خلال القرن الفائت، خاصة خلال النصف الأول منه. حدث هذا في مصر وبلاد الشام، ثم حدث من بعد في بلدان المغرب العربي. كانت مصر -وكان هذا قدرها- أن تكون رائدة في هذا الأمر حينما رأى محمد علي أن نهضة البلاد وقوتها تقتضي إرسال البعثات إلى أوروبا في سائر المجالات التي يمكن أن تنهض بأحوال البلاد، خاصةً في المجالات العسكرية والهندسية والطبية والتعليمية والثقافية، وهذه السياسة الحكيمة -التي تواصلت مع أبنائه من بعده- هي السياسة التي أوفدت إلى التعلم في الخارج رفاعة رافع الطهطاوي رائد الترجمة في مصر، وعلي باشا مبارك رائد التعليم الحديث، ومن بعد ذلك طه حسين الذي أصبح عميدًا للأدب العربي، فضلًا عن الأدباء والمفكرين أمثال: أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، والعلماء أمثال: علي مصطفى مشرفة رائد العلم العربي الحديث ومن بعده السير مجدي يعقوب وأحمد زويل، ومن هم على شاكلتهم من الرواد في سائر المجالات. وقِس على هذا ما جرى بعد ذلك في كثير من البلدان العربية في الشام والمغرب العربي، ويكفي أن نذكر هنا دور العلَّامة المفكر والناقد العظيم إدوارد سعيد. لقد قرأت عن هذه المرحلة الخصبة من تاريخ النهضة العربية، وعرفت مدى التأثير الذي يمكن أن يحدثه إرسال البعثات التعليمية في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي. ولقد عايشت أنا شخصيًّا أواخر هذه التجربة التي كانت الدولة لا تزال تحرص فيها على إيفاد البعثات إلى الخارج ولو بشق الأنفس: ففي سنة 1983- أي منذ قرابة أربعين سنة- كنت أول المرشحين للسفر إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الفلسفة من أجل الحصول على درجة الدكتوراة؛ وقد سألني الموظف المسؤول يومئذ إذا كنت سأقبل السفر أم لا؛ لأن طابور المنتظرين طويل من أجل الحصول على هذه المنحة. أجبت بالرفض لسببين: أولهما أنني قد رُزقت يومها بأول أبنائي الذي هو منحة الله الكبرى، وقلت للموظف إن منحتكم سوف تحرمني من ولدي؛ والثاني أنني رأيت أن ما أتعلمه من قراءاتي للفكر الأوروبي أهم مما يمكن أن أتعلمه عن الفلسفة في روسيا. كانت المنح إلى روسيا شائعة آنذاك بحكم اتفاقيات ثقافية وتعليمية تحددت في المرحلة الناصرية. لا أقصد من وراء ذلك التقليل من شأن التعليم في روسيا الذي تطور الآن بشكل ملحوظ.

حدث هذا في مصر مثلما حدث في بلدان المشرق، ومثلما حدث من بعد في بلدان المغرب العربي. وفي هذا الصدد أود القول صراحة ومن دون مواربة إن بلدان المغرب العربي قد تفوقت خلال العقود الأخيرة على بلدان المشرق العربي؛ بالضبط لهذا السبب، أعني أن بلدان المغرب اضطلعت بالدور الذي كانت تضطلع به بلدان المشرق فيما مضى، من حيث الاهتمام بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فضلًا عن المبادرات الشخصية التي يقوم بها الأفراد للدراسة والتعلم في الخارج. ولا شك في أنه مما ساعد على ذلك قرب المسافة بين هذه الدول والبلدان الأوروبية المتقدمة، خاصة فرنسا. وفضلًا عن ذلك فإن الاحتلال الفرنسي الطويل لتلك الدول كانت له فائدة لا تُنكَر، أهمها إجادة اللغة الفرنسية ذاتها؛ ولذلك فإن مَن لم يرحل إلى هذه البلدان يظل قادرًا على الاطلاع على ثقافتها عبر بوابة اللغة والثقافة الفرنسية.

أما عرب المهجر الآن، فهم -في معظمهم- مجرد أقوام يعيشون في الغرب الأوروبي أو الأمريكي، وأولئك حالهم عجيب. عرفت من هؤلاء مثقفين حقيقيين من أمثال وليد حمارنة، ولكني عرفت من هؤلاء أيضًا كثرة من المزيفين، ممن يتصورون أن مجرد إجادة اللكنة الإنجليزية أو الأمريكية كافٍ لأن يجعلهم مثقفين يعرفون ما لا تعرفه أنت؛ ومن ثم فإنهم يمتازون عليك باعتبارهم أفرادًا يعيشون في بلدان متحضرة. أولئك يتمسحون في هوية البلدان التي يعيشون فيها من دون أن تكون لهم هوية حقيقية؛ ولذلك ترى معظمهم حينما يأتون إلى بلدانهم الأصلية في زيارات عابرة، تراهم في هيئة مختلفة تمامًا عن هيئة الأهل والشعب الذي ينتمون إليه، فترى الرجال قد أطالوا شعورهم حتى تنسدل تحت أقفائهم، وارتدوا القبعات وغير ذلك من المظاهر التي تدل على اختلافهم عن بني وطنهم، وكأن هذه المظاهر والعلامات هي أمارات على تميزهم. لم يفعل ذلك المتميزون حقًّا.. لم يفعل ذلك إدوارد سعيد (على سبيل المثال)، رغم أن بداية تألقه كانت في عصر التقاليع أو التحولات الكبرى في الفن والموضة (عصر الهيبيز). المفلسون يركزون دائمًا على المظاهر الشكلية في هيئتهم وفي كلامهم أيضًا، فتراهم يركزون على استخدام كلمات أجنبية من دون حاجة إلى استخدامها في الحوار؛ لأنها ليست بكلمات علمية أو اصطلاحية، وإنما هي مجرد كلمات أجنبية يستخدمونها من باب التعالي على لغتهم الأم، أعني: اللغة العربية التي هي من أسمى اللغات في القدرة على التعبير.

ما أود قوله هو أن فقدان الهوية الأصلية يهدد بالانسحاق في الآخر، بل في أسوأ المظاهر الشكلية للآخر، ولم يكن هذا هو حال عرب المهجر الأوائل الذين ظل وطنهم وهويتهم العربية حاضرَين بقوة في أدبهم وفكرهم.