عبدالناصر: ما يصيب غزة يصيب مصر

14 يناير 2024
14 يناير 2024

لم تكن الإعلامية السعودية نادين البدير تعلم بأنّ تغريدتها عن الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي، ستثير سجالًا قويًّا عبر منصة «إكس» بين رجلي الأعمال المصريَّيْن نجيب ساويرس، وحسن محمد حسنين هيكل، وبأنّ التغريدة ستفتح بابًا لانتقاد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر حول غزة؛ (الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده الـ106)؛ فقد أيّد ساويرس ما جاء في تغريدة البدير التي تدعم فيها الكفاح السلمي في العديد من القضايا الشائكة، مستشهدة بالكفاح السلمي الذي قاده المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني لبلاده، وكذلك كفاح نيلسون مانديلا السلمي في جنوب أفريقيا، وقارنت بين تلك الحالة والحالة الفلسطينية، ورأت أنّ مانديلا حصل على ما يريد، بعد أن كسب قلوب العالم بذلك النهج، وألحق ذلك بمشروع التسامح والمغفرة بين البيض والسود، وفي دعوة صريحة للفلسطينيين أن يحذوا الحذو نفسه، وختمت تغريدتها قائلة: "تجارب ناجحة تستحق أن نقتدي بها"، ليرد عليها ساويرس مؤكدًا دعمه لآرائها، وأنّ ما حصل في الهند وجنوب أفريقيا، حصل دون إراقة الدماء ودون ضحايا أبرياء. ولكن تأييد ساويرس لم يلق قبول حسن هيكل، ليرد قائلًا: «لما تيجي عليه يقول صعيدي باخد حقي بذراعي، لكن في فلسطين يدور على محفظته أو باسبوراته، عيب». واستمر الجدال بين الطرفين ليرد ساويرس قائلًا: «ما حد وصلنا للنكبة أو النكسة وضيّع الضفة الغربية وغزة إلا عبدالناصر».

لم تكن هذه المرة الأولى التي يهاجم فيها ساويرس عبدالناصر؛ فهو دائمًا ما يوجه انتقادات حادة له بين فترة وأخرى، ويستغل كلَّ مناسبة للهجوم عليه، وهذه الآراء وضعته في سجالات عديدة سابقة مع عدد من السياسيين والإعلاميين المصريين، ولكن الشيء الغريب هو تلك الصيحة التي انتشرت الآن وبقوة، من بعض السياسيين والإعلاميين والمتحدثين في المنابر، تنتقد حماس في دفاعها عن النفس وفي جهادها المقدس، وكأنّ المفروض أن تضرب إسرائيلُ غزةَ بالصواريخ، فتستقبل غزة ذلك بالورود، وهذا ما ذهب إليه ساويرس تأييدًا لرأي نادين البدير.

النقاش المحتدم بين رجلي الأعمال المصريَّيْن وكلُّ المداخلات -تأييدًا ورفضًا- فتحت بابًا كان مواربًا عن موقف مصر من الحاصل في غزة الآن، وأعاد فتح ملف علاقتها بالقضية الفلسطينية وموقف عبدالناصر.

كانت علاقة عبدالناصر بغزة خاصة، فكان يتابع أحوالها يوميًّا، وأعطاها الأولوية في مجالات الحياة؛ كالتعليم والصحة والاقتصاد، "وكان صارمًا حازمًا إزاء أية تجاوزات بحق أهالي القطاع من جانب رجال الإدارة (المصرية)؛ فغزة كانت بطلة التضحيات في تلك الفترة"، حسب فريح أبو مدين القيادي والمحامي الفلسطيني المعروف والوزير السابق، الذي كتب مقالًا في صحيفة "رأي اليوم" عام 2014، مشيدًا بمواقف عبدالناصر.

وأذكر أنه مما قاله لي الأستاذ محمود الطحان، وهو أحد أبناء غزة المثقفين والمتابعين، ويقيم في مسقط أكثر من خمسين سنة، بأنّ أهل غزة تربَّوا على القتال، منذ أن كانت مدينتهم الصامدة تحت الحكم المصري، فقد كانت ضمن المناهج الدراسية حصتان للتدريب العسكري باسم "الفتوّة"، وحصتان في السنة للتدريب على إطلاق الذخيرة الحية، وهذا ساعد كثيرًا في تكوين الكوادر المقاتلة؛ لذا لم يكن غريبًا أن يخاطب الرئيس جمال عبدالناصر الفدائيين في غزة يوم الثالث عشر من مايو ١٩٥٦، قائلا: "لقد أثبتم بالتجربة، أنكم رجال يستطيع وطنهم أن يعتمد عليهم. إنّ الروح التي دخلتم بها أرض العدو يجب أن تسري وأن تنتشر. فلقد أحست الدنيا كلها بأعمالكم، وأهم من ذلك كله أحَسّ العدو بوطأتكم عليه، وعرف إلى أيّ مدى تستطيع قلوبكم أن تمتلئ بالشجاعة والعزم"، وهي كلمات كأنها قيلت الآن عن معركة طوفان الأقصى.

كان عبدالناصر يعلم قيمة ما تمثله غزة للأمن القومي المصري؛ فغزة تمثل حائط الصد الذي يمنع التمدد الإسرائيلي من الوصول إلى الحدود المصرية، ويحتفظ القطاع بحدود مع مصر بطول ثلاثة عشر كيلومترًا، بمعنى أنّ القطاع فصل بين الكيان الإسرائيلي ومصر، وشكّل إضافة أمنية مهمة لمصر.

عن اهتمام عبدالناصر بقطاع غزة يقول فريح أبو مدين: "لعل مذبحة غزة في 28/2/1955 هي نقطة التحول في تفكير عبدالناصر الاستراتيجي، التي دعته إلى كسر احتكار السلاح والاتجاه نحو الكتلة الشرقية وتأميم قناة السويس، وما تلاها من عدوان على مصر وغزة؛ حيث حارب القطاع بكلّ بسالة وشجاعة. وكانت المذابح التي ارتكبت ضد شعب غزة في كلّ مكان، خاصة مذبحة خان يونس، التي سقط فيها 1550 شهيدا.. وقد حفظ الرجل ذلك لغزة وأهلها. فحين انسحبت إسرائيل من سيناء، ورفض بن غوريون الانسحاب من غزة، رفض عبدالناصر كلَّ الحلول بعيدًا عن غزة، وخرج إلى الشوارع شعب القطاع من السابع إلى الرابع عشر من مارس عام 1957، حتى عادت غزة إلى مصر، ولم يتركها عبدالناصر خلفه. بعد ذلك دخلت غزة في جولة جديدة أثناء حرب يونيو عام 1967، فحاربت مع الجيش المصري ببطولة شهد بها الأعداء".

من مصلحة مصر والبُلدان العربية كلها الوقوف مع حماس، عسكريًّا وماديًّا وسياسيًّا؛ لأنّ الكيان الإسرائيلي سيبقى مصدر التهديد الرئيسي ليس فقط للأمن الوطني المصري؛ بل للدور الإقليمي المصري كله، وليس خافيًا أنّ إسرائيل -وبدعم كامل من الولايات المتحدة، ورغم الاتفاقيات التي سُميَت باتفاقيات السلام- تعمل بإصرار على عزل مصر عن محيطها العربي والإسلامي، ومحاصرة دورها، وحصره في الوساطة ونقل الرسائل بين العرب والصهاينة فقط، لذا نقول إنّ غياب الدور المصري عن غزة ساهم مساهمة كبيرة في كلّ ما جرى للقطاع، وكان من الخطأ أن تسحب مصر سفيرها ووفدها الدائم من غزة، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية، فأصبح هناك فراغ لأيّ دور مصري، وقد وصف الكاتب محمد إبراهيم المدهون هذه الخطوة قائلا: "كان من الأولى أن تحافظ مصر على تواجدها الأمني على الأقل في غزة، ليس لمصلحة قطاع غزة وحماس، بل من أجل مصر نفسها، وحمايتها، ورؤية الأمور على الأرض بشكلها وصورتها الصحيحة، مما يؤدي ربما إلى حكم على الأمور أقرب إلى الصواب".

إنّ الأمن القومي المصري مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بما يجري في غزة، وتشكّل مصر وفلسطين -وخصوصًا غزة- كتلة استراتيجية واحدة، لذا كان جمال عبدالناصر مدركًا وواعيًا لأهمية القطاع للأمن القومي المصري، وقد خاطب أهل غزة قائلًا: "إنني أريدكم أن تعرفوا حقيقة هامة، وهي أنّ نظرتي إلى غزة هي نظرتي إلى مصر، وما يصيب غزة يصيب مصر، وما يوَجَّه إلى غزة يوَجَّه إلى مصر".

أمام الكلام الكثير الذي يثار عن الموقف المصري من الحرب على غزة وعن منفذ رفح، أعود إلى تساؤل قديم طرحه فريح أبو مدين قبل عشر سنوات: يا ترى هل لو بقي عبدالناصر حيًّا كان سيترك غزة خلفه؟ وهل كان سيترك غزة تحَاصَر وتجوّع وتذبح. ثم ختم بقوله: "يا عبدالناصر لو أطللت علينا من قبرك لوجدتَ غزة في خندقها تحارب يومها ودموعها وأطفالها ونساءها ورجالها. فنم قرير العين ولا نامت أعين الجبناء".

من المؤلم جدًا أن يناقش البعض دور عبدالناصر في غزة، ويدعون إلى "الكفاح السلمي"، في وقت يسوّق فيه الكيان الإسرائيلي نفسه لبعض الأنظمة العربية، أنه شريكٌ في الحرب على "الإرهاب" الذي تمثله حماس والجهاد الإسلامي وكلُّ حركات المقاومة، التي ستبقى أبد الدهر عنوانًا للعزة والكرامة، والأغرب ألا يرى مثل هؤلاء الوحشية الإسرائيلية والأرواح البريئة التي ذهبت، وكأنّ إسرائيل حمامة سلام.