طوفان الأقصى .. ذَبَحَ البقرة الحمراء

06 مايو 2024
06 مايو 2024

عبدالله معروف أستاذ دراسات بيت المقدس.. تحدث في مقال له بعنوان «البقرة الحمراء وحُمّى الإشارات الإلهية»، المنشور على الموقع الإلكتروني لقناة الجزيرة، بتاريخ: 6/ 8/ 2023م، عن «أسطورة البقرة الحمراء» وتأثيرها على الأوضاع في فلسطين المحتلة، فقال: (اللافت في هذا الموضوع ليس الأسطورة نفسها، وإنما مدى تأثير الأسطورة على حكومات الاحتلال وطريقة تعاملها معها)، وقال: (إن ما يجري في الأراضي الفلسطينية حالياً يدفع باتجاه صدام ديني لا يمكن أن يقل عنفاً عن أحداث 2021م، فالاستعداء الديني.. الذي تقوم به حكومة الاحتلال يرتفع إلى أعلى درجاته مع تيار الصهيونية الدينية، وهذا الاستعداء الديني لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تفجير الأوضاع في المنطقة ككل، وأخطر أنواع الانفجارات هو ما كانت خلفيته دينية بحتة، فهل يعي العالم ذلك ويوقف هذا التهور الأرعن لدى حكومة الاحتلال وحلفائها؟).

مقال معروف.. جاء قبل شهرين فقط من انطلاق طوفان الأقصى في 7/ 10/ 2023م، وما حذّر منه وقع فعلاً؛ كأنه يبصر المستقبل. وهذا يدل على أن الكيان الصهيوني لم يترك شيئا لم يستغله لتحقيق مشروعه الاستيطاني، بما في ذلك الأساطير. كان بالإمكان ألا يُلتفت لمثل هذه الأساطير في المواقف السياسية المفصلية، وأن تبقى مجالاً خصباً للأدب والسينما والاقتصاد، للاستثمار في مجالات «المعرفة الأسطورية» المبهرة، لكن البشرية ما زالت تحركها الأساطير باتجاه التعصب والعنف.

البقرة.. شكّلت عبر التاريخ منظومات عقدية، احتوت على عناصر واقعية ودينية وأسطورية. فقد جاء ذكرها في الألواح والكتب الدينية، حيث نجدها عند السومريين ضمن قائمة المعبودات، ولدى الآشوريين في تمثال كبير بجناحين ورأس إنسان ممثلاً إله القوة، وهي في الحضارة الفرعونية رمز إلهي للملوك، ولها حضور لدى العرب قبل الإسلام، فهي ترمز لإله الخصب القمر، والثور الوحشي مقدس لديهم، ونجد كذلك صداها في اليهودية والمسيحية والإسلام، ولا تزال البقرة تقدَّس في الهندوسية.

لم يكن حضور البقرة لدى الأمم عابراً، بل كان مؤثراً على الاجتماع البشري؛ بما في ذلك السياسة لاصطباغها بالصبغة الدينية، ولذا؛ لا نستغرب أن يُلقي هذا الحضور بظلاله على الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في معاركهم المستمرة. ولكي نفهم تأثير دلالة البقرة فيما يحدث الآن بفلسطين؛ علينا أن ننظر إليها في ضوء الأديان الإبراهيمية الثلاثة:

- اليهودية.. ورد في التوراة: (وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ هَذِهِ فَرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ التِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ، كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَأْخُذُوا إِليْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لا عَيْبَ فِيهَا وَلمْ يَعْلُ عَليْهَا نِيرٌ) [العدد19/1-2]، هذا الوصف يأتي في سياق تشريع الطهارة من الخطيئة لدى اليهود، فكل ما يلمسه المتنجِس تسري إليه النجاسة، حتى يأتي بهذا الطقس، وهو فريضة مؤبدة: (فَتَكُونُ لِبَنِي إِسْرَائِيل وَلِلغَرِيبِ النَّازِلِ فِي وَسَطِهِمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً) [العدد19/10]. لن يسمح للمتنجس أن يدخل «بيت الرب» حتى يتطهر، ويَرْوُون.. بأنهم عندما بنوا الهيكل طلبوا من كل يهودي أن يكون طاهرًا، أو يتطهر إن كان نجسا، لكي يدخله، وكذلك عند إعادة بنائه للمرة الثانية، وهذا كله لم يرد في التوراة، وإنما هو اجتهاد أحبارهم ومواعظ كهانهم.

ومع صعود التيار الديني في إسرائيل -خصصتُ مقالاً له بعنوان «إسرائيل.. واليهودية السياسية»، أرجو نشره قريباً- أفتى الحاخام الصهيوني إبراهام كوك (ت:1935م) بأن على كل يهودي أن يتوب «توبة كبرى بالعودة إلى إسرائيل»، لكي يقيموا فيها الهيكل، ولا يقام حتى يتطهروا. ويرى الصهاينة أن الوقت قد حان لبنائه، ولذا؛ هم يبحثون الآن عن بقرة حمراء ليقيموا طقس الطهارة. هذا ملخص قصة البقرة الحمراء، فهي ليست نبوءة لبناء الهيكل، وإنما «طقس مبتدع» لدخوله. وبعض كهنتهم يحرّمون دخول المسجد الأقصى، لأنهم يعتقدون أن موقع الهيكل هو مكان المسجد، ولا يجوز لهم دخوله حتى يتطهروا بهذا الطقس البقري.

هذا التطور في استغلال قصة البقرة الحمراء يدل على أن التيار الديني المتصهين في تصاعد مستمر، حيث بات يفرض رؤيته على الحكومة الإسرائيلية، حتى أصبحت على مشارف تحقيق نبوءة هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل. ويزعمون بأن تحققها في هذا العام 2024م، فعاجلتهم المقاومة بطوفان الأقصى، كما ورد على لسان قادة حماس، حيث صرّح خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس بالخارج في بيانه بتاريخ: 26/ 10/ 2023م قائلاً: (وبقيت القرابين الحيوانية.. التي استوردوا البقرات الخمس الحمراء من أمريكا، تمهيداً لهدم الأقصى وبناء الهيكل)، ثم ذكرها أبو عبيدة الناطق العسكري لكتائب القسام في بيان له بتاريخ: 14/ 1/ 2024م بقوله: (نذكّر بعدوان بلغ أقصى مداه على مسرانا وأقصانا، وبدأ تقسيمه الزماني والمكاني فعلاً، وأحضرت البقرات الحُمر، تطبيقاً لخرافة دينية مقيتة، مصممة للعدوان على مشاعر أمة كاملة، في قلب عروبتها ومسرى نبيها).

هذا يدل على قوة تأثير المعتقدات الدينية، وأنه يمكن أن يعاد تأويلها لخدمة السياسة بكل تعصب، بل وبشن حروب الإبادة الجماعية، كما تفعل الآن القوات الإسرائيلية وداعموها الغربيون في غزة.

- المسيحية.. لا يوجد نص في الأناجيل يتعلق بالبقرة الحمراء، لكن المسيحيين يؤمنون بالتوراة، وهم وإن كانوا عموماً قد تجاوزوا «فقه الشريعة اليهودية» منذ وقت مبكر، إلا أنهم أعادوا تأويل كثير من نصوص التوراة بما يتفق مع عقيدتهم المسيحية، فأوّلوا دلالة البقرة الحمراء بما يتناسب مع معتقدهم في المسيح، فاعتبرها بعضهم رمزاً للمسيح المخلِّص «يسوع»، فهو الوحيد الكامل الذي لا عيب فيه، وقد «قُتِل تطهيراً» للبشر من الخطيئة الأولى التي ارتكبها أبواهم آدم وحواء.

قصة البقرة الحمراء.. كما أنها لا علاقة لها بالهيكل بحسب النص التوراتي؛ ففي المسيحية أيضاً لا علاقة لها بعودة المسيح المنتظرة لديهم. غير أن تياراً من المسيحية الإنجيلية «البروتستانتية» تبنى ظهور البقرة الحمراء بأنه نبوءة لعودة المسيح، وهذا التيار يتفق في كثير من مقولاته الدينية مع الصهيونية ومشروع هجرتها إلى فلسطين، لتحقق عودة المسيح المنتظرة آخر الزمان، فيحكم العالم بالعدل والسلام.. بل هذا التيار هو الأساس العقدي للصهيونية. ولتعجيل ظهور المسيح سعى في أمريكا لاستيلاد البقر الحُمْر، ومنها البقرات الخمس التي أرسلت إلى إسرائيل نهاية عام 2022م. ولهذا التيار تأثير واضح على السياسة الغربية؛ خاصة البريطانية والأمريكية في دعم المشروع الصهيوني وفرض كيانه في فلسطين.

- الإسلام.. ورد في القرآن وصف البقرة بأنها: (بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة:69]، وأنها (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيه) [البقرة:71]، البقرتان الحمراء والصفراء.. تتفقان في الأوصاف، وأنهما وقعت قصتهما لبني إسرائيل، لكن كل واحدة منهما أتت لغرضها الخاص. فالحمراء.. جاءت للتطهر من النجاسة، والصفراء.. لكشف «طبيعة بني إسرائيل المراوغة» وموقفهم من أوامر الله التي جاء بها نبيهم موسى، هذه دلالة القصة في الإسلام، لكنها «أُسطرت» بالروايات، وخُلِط بينها وبين قصة «قتل النفس» التي أعقبتها مباشرة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) [البقرة:72].

وإذا كان لا ينبغي أن يُخلَط بين القصتين المتعاقبتين في القرآن؛ فمن باب أولى لا ينبغي الخلط بين قصتَي البقرة الحمراء والبقرة الصفراء اللتين وردتا في كتابَين بشريعتين مختلفتين، لأن خلط النصوص الدينية وحمل بعضها على بعض بأدلجة تسوَّق بين الناس يشوش على الحقائق في أرض الواقع.

لقد تفطنت المقاومة الفلسطينية لتأثير الأساطير السياسية التي تضخ باسم الدين، والتي يُحرَك بها المجتمعات، وجاء طوفان الأقصى فـ«ذَبَحَ البقرة الحمراء» قبل ذبحها لهيكل الوهم الصهيوني، وخلخل أركان المشروع الصهيوني القائم على الأسطرة، وأوجد وعياً عالمياً بالقضية الفلسطينية، خرجت الشعوب لمؤازرتها.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»