طرق مستدامة صديقة للناس
يخبرنا تقرير (وقت التغيير غير المسبوق في نظام النقل. مستقبل النقل)، الصادر عن (المكتب الحكومي للعلوم) في بريطانيا، عن الأهمية الاقتصادية للنقل، حيث "يخلق فرصا للنمو والعمل، ويسهِّل التجارة، ويعزِّز القدرة التنافسية... من خلال تحسين الاتصال عبر المناطق المحلية والإقليمية والعالمية"، ولهذا فإن التغيرات السكانية والتقنية التي يشهدها العالم خلال الفترات الأخيرة عموما، وما سيشهده من تطورات ديموغرافية وسوسيولوجية متسارعة سيكون لها الأثر الكبير على الإمكانات التي تقدمها الطرق ووسائل النقل للمجتمعات.
ولهذا فإن الفكر التنموي الحديث يقتضي التفكير في مدى الاستفادة من الإمكانات التي تتيحها الطرق للحياة اليومية لأفراد المجتمع، بحيث يتم النظر إليها باعتبارها (نظاما)؛ ذلك لأن مستقبل النقل يحتاج إلى تحقيق مجموعة من الاعتبارات من أهمها الاستدامة والقدرة على خدمة المجتمع على المستوى الاجتماعي والصحي، ولذلك فإن هذا التقرير يجعل من (التركيز على الناس) منطلقا لمستقبل النقل؛ إذ إن فهم طبيعة حياة المجتمع وما ننشده من إمكانات تقنية، أسس مهمة للتخطيط العمراني من ناحية، وتخطيط الطرق ووسائل النقل من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أن هذا التقرير يركز على مستقبل النقل في المملكة المتحدة، وما يمثله من فرص استثمارية وتحديات، من خلال استعراض الاستراتيجية الصناعية المرتبطة بالنقل، وما تتميز به المملكة من خبرة ومعرفة رائدة جعلتها في طليعة (ابتكارات النقل)، إلَّا أن هذه التجربة تُعد إحدى التجارب المهمة التي رصدت أهمية التعاون والتكامل بين قطاع الصناعة والعلوم والتخطيط من ناحية، والمشاركة الفاعلة بين صانعي القرار والمواطنين من ناحية أخرى، لما لذلك من أهمية في إنشاء نظام نقل جاهز للتغيّرات المستقبلية وبالتالي نظام نقل مستدام.
إن التطورات التي ينشدها العالم من التقدم التكنولوجي وظهور التقنيات الحديثة في أنظمة النقل والأتمتة، والاقتصادات التشاركية، لها تأثيرات كبرى على النظام الاجتماعي للناس، ولهذا فإن تخطيط النقل يجب أن يقوم على (المنافع الاجتماعية)، وما سيستفيده المجتمع على المستويات الاجتماعية والصحية والاقتصادية، ذلك لأن الطرق ليست مسارا لوسائل النقل وحسب، بل منفذا اجتماعيا "يربط الناس ببعضهم، ويوفر الوظائف والسلع والخدمات الحيوية" -حسب تقرير المكتب الحكومي للعلوم. إنه امتداد للحواضر والمدن وجزء مهم من المنظومة الاجتماعية، ولهذا فإن فهم العوامل الاجتماعية وأنماط حياة الناس، وما ننشده من أهداف وطنية على المستوى الاجتماعي هو (المفتاح) لفهم متطلبات المجتمع من أنظمة النقل والطرق.
والحق أن سلطنة عمان من الدول التي أولت أنظمة الطرق أهمية كبرى، حيث تحافظ على مستويات متقدمة عالميا في مؤشرات (جودة شبكات الطرق)، فقد ربطت المحافظات بشبكة طرق ذات مواصفات عالية الجودة، على الرغم من التحديات التي تمثلها الطبيعة الجغرافية والجيولوجية لشق الطرق وتعبيدها، حتى أصبحت عُمان من الدول المتميزة ببنيتها التحتية، وقدرتها على تحقيق استدامة على مستوى إنشاءات الطرق خاصة السريعة منها.
والحال أن الحكومة حرصت على إشراك المجتمع في المنظومة التنموية، وكذلك في التخطيط لإنشاء الطرق؛ حيث يتم التخطيط للنقل بناء على الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، الأمر الذي جعل العديد من الطرق الداخلية في المدن العمانية تتمتع بقدرتها الاجتماعية، والإمكانات الثقافية التي تتيحها من خلال الممارسة اليومية للناس، وفتح آفاق الاستثمار بين أكتاف الطرق وربطها بالخدمات الصحية والاقتصادية الأخرى، ولهذا فإنها أتاحت بُعدا اجتماعيا مهما، أسهم في النمو الحضري لإيجاد مدن وقرى أكثر حيوية وصحة واستدامة.
وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من الطرق تظهر اليوم ببُعدها الاستهلاكي الاقتصادي فقط؛ ذلك لأنها مسارات شاسعة تكاد تخلو من الخدمات الاجتماعية، ولا توفر إمكاناتها التحتية فرصا لظهور أنماط ترفيهية وجمالية؛ فكم هي الطرق التي شُقت بين الجبال أو على الشواطئ، حيث المناظر الطبيعية الخلابة، والإطلالات التي يمكن أن توفر متنفسا للترفيه والحياة الاجتماعية من ناحية ومجالا للاستثمارات والوظائف من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل منها طرقا غير صديقة للناس، تنعدم فيها الحياة سوى سيارات المارة. إنها طرق لا تُقدم نفسها باعتبارها جزءا من النظام الاجتماعي بقدر ما تكون معبرا ووسيلة.
جاء في مقدمة التقرير المشترك بين وكالات الأمم المتحدة للمؤتمر العالمي الثاني للنقل المستدام (النقل المستدام. تنمية مستدامة)، الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة في العاصمة الصينية بكين في أكتوبر 2021، أنه "يجب علينا بذل جهود عالمية مركزة في المجالات التي توجد فيها روابط عميقة ومنهجية عبر الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة. أحد هذه المجالات الحاسمة هو (النقل المستدام)"، لما يمثله من أهمية على المستوى التنموي، وعلاقته بإمكانات تحقيق الأهداف الوطنية بشكل خاص.
يكشف التقرير أن العديد من بلدان العالم تواجه "أوضاعا حرجة بشكل خاص على شبكات النقل وهي أيضا شديدة التأثر بعوامل مثل الاستثمار غير الكافي في البنية التحتية والقدرة المحدودة، وضعف الاتصال عبر الحدود، وزيادة التعرُّض لتغيُّر المناخ والظواهر الجوية الشديدة"، ولهذا فإن الكثير من أفراد المجتمعات خاصة ذوي الإعاقة وكبار السن، وحتى ممارسي رياضة المشي أو ركوب الدرّاجات يواجهون العديد من التحديات في الاستفادة من الطرق ووسائل النقل؛ إما بسبب عدم تهيئة الطرق بممرات خاصة، أو لعدم مناسبة وسائل النقل نفسها لطبيعة الحياة الاجتماعية التي يمارسها سكان المنطقة.
ولعل مما كشفته جائحة كورونا (كوفيد-19) هو الأهمية التنموية للطرق ووسائل النقل؛ ففي فترات إغلاق الصالات الرياضية والكثير من المنافذ الحيوية، برزت الحاجة إلى وجود مسارات آمنة لممارسة رياضة المشي أو ركوب الدرّاجات أو أية رياضة هوائية أخرى، ولهذا فإن الاهتمام بما يسميه يان جيل في (مدن للناس) بـ (البعد الإنساني للمدن) من أهم سمات الطرق، التي تركِّز على الطابع الاجتماعي بل وحتى التاريخ الثقافي للمجتمع، ولهذا فإن الاهتمام بتقييم توفر هذا الطابع في الطرق الممتدة في ربوع المحافظات وخاصة تلك التي تكون في قلب المدن والحواضر، يعد من بين الأولويات التنموية التي تدعم التنمية الاجتماعية والثقافية والبيئية، إضافة إلى أهميتها الاقتصادية.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة فإن التحوُّل نحو النقل المستدام يتطلب "اتّباع مناهج متكاملة تجمع بين العديد من أصحاب المصلحة حول أهداف مشتركة، وينبغي أن تُعزِّز هذه المناهج التحليل الشامل للأبعاد التنموية المختلفة" -بتعبير التقرير- ولهذا فإن من بين المخاطر التي تواجه الطرق ووسائل النقل المستدامة في المدن والحواضر هو التغيُّر الديموغرافي والتحضر، إضافة إلى الرقمنة والتغيُّر التكنولوجي السريع، فالنقل المستدام مرتبط بالتنمية الوطنية المستدامة؛ ذلك لأنه يُسهم في ترسيخ مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق، ودعم سبل العيش والرفاه، إضافة إلى توفير فرص العمل، وتمكين الوصول إلى الوظائف.
إننا ننظر إلى الطرق باعتبارها مجالا اجتماعيا واسعا، فهي ليست مجرد أسفلت ممتد على أرصفة، يربط بين مدن أو حواضر. إنها جزء من منظومة اجتماعية وثقافية وجمالية، تضمن (الإدماج)، و(السلامة)، و(الكفاءة)، و(المرونة)، و(القدرة)؛ تُهيئ مسارا تنمويا قادرا على الصمود في وجه المتغيّرات والتقلبات المناخية، بقدر مرونته في إتاحة فرصة للناس للحياة بين يديها، حياة صحية وترفيهية متماسكة وآمنة.
