طالبان.. من السياسة الشرعية إلى الإسلام السياسي
خميس بن راشد العدوي -
طالبان.. الحديث عنها حديث عن أفغانستان، فلا يمكن فهم هذه إلا بمعرفة تاريخ تلك، وتصور جغرافية أرضها، وتعاقب الصراعات عليها، على أقل تقدير.. منذ بدية تعرّفها على الغرب من خلال الاستعمار البريطاني، الغرب.. الذي قدّم نفسه للمسلمين بأنه جاء لنهب ثرواتهم والقضاء على دينهم. فالاستعمار الغربي نظام إمبراطوري توسعي، غايته تحقيق وجوده بالتمدد الجغرافي، بكل ما يستلزم من انتهاك للقيم الإنسانية. وطالبان.. هي المرحلة الأخيرة من كفاح الأفغان الطويل ضد النظام الإمبراطوري؛ المتمثّل في بريطانيا، والنظام الشمولي المتمثّل في السوفييت، والنظام الدولي المتمثّل في أمريكا. طالبان.. حركة عسكرية سياسية نبتت في بلاد لم تُترَك للتطور السياسي الطبيعي، وإنما أُدخلت في أتون حروب أزهقت ملايين النفوس. فأي نقد يوجه لطالبان؛ فهو بالمقام الأول نقد للأنظمة العالمية التي تعاقبت على هذه الأرض.
طالبان.. أدبرت عن مرحلة وتُقبِل على أخرى، كلاهما ينتميان للفكر السياسي الإسلامي:
- مرحلة السياسة الشرعية: ابتدأت بوصول طالبان للحكم عام 1996م، وانتهت بالغزو الأمريكي 2001م، وهي مرحلة يشوبها الغموض، فهل ولدت طالبان من رحم الاجتماع الأفغاني العَسِر، أم أنها صنيعة مخابرات خارجية؟ جدلٌ في ذلك عريض، والذي أرتضيه.. أنها انبثاق محلي، انتجته الحرب الضروس بين «فصائل المجاهدين» عقب انسحاب السوفييت، حيث قام طلبة العلم الديني في قندهار بما يرونه واجب «تغيير المنكر»، فامتشقوا السلاح، والسلاح حينها في أفغانستان أقرب لليد من العِصِيّ، فلمّا تمكنوا من القيام بـ«هذا الواجب» أخذوا في التوسع. هنا جاء التدخل الخارجي عن طريق باكستان، التي كان لديهم فيها مؤيدون إسلاميون في الحكومة الباكستانية، وقضية الاستعانة في الحروب بالجهات الخارجية حينها لم يكن غريباً، بل هو السائد منذ عام 1979م، ومن بوابة باكستان ولجت التدخلات الأجنبية.
طالبان.. وجدت نفسها المرشح لتوحيد أفغانستان بكشح «فصائل المجاهدين» المتقاتلة، وكان العالم حينها يريد أن تخرج أفغانستان من الاقتتال المربك للمنطقة، لاسيما.. أن المقاتلين غير الأفغان كـ«الأفغان العرب»، الذين لا زالت أفغانستان مأرزهم، بدأوا الرجوع إلى أوطانهم، ويكون لهم فيها توجهاتهم غير المرغوبة، كما كانت أمريكا أيضاً تريد سحب قدمها من أفغانستان التي كلفتها كثيراً منذ حربها ضد السوفييت.
هذا المرحلة.. تنتمي إلى المعروف فقهاً بـ«السياسة الشرعية»، وهي نظام يقوم على المقررات الفقهية في السياسة التي تشكلت خلال التاريخ الأول للمسلمين، يغلب عليه التطبيق الظاهري للنصوص، وقد تجاوزه الزمن؛ إلا أن أفغانستان في التسعينات لا يزال التحول لم يحصل في بنيتها، مما جعلها قابلة لقيام إمارة فيها تنتمي لهذا النظام. وفعلاً.. هذا ما رءاه العالم مخرجاً من «المستنقع الأفغاني»، فابتدأت الدول تعترف بإمارتهم الناشئة، حتى أمريكا مشت خطوات في ذلك.
طبقت طالبان نظريتها التي درستها في مدارسها بشكل شبه حرفي، ولذلك.. رأينا تصرفاتها «القادمة من بطن التاريخ» مع كل مَن يخالف أوامرها، سواء بالنسبة لتعاملهم مع المرأة والمجتمع، أو مَن يخالفهم في المعتقد، أو مَن يرونه خرج عن تعاليم الإسلام، وكانت علاقاتهم مع الدول تقوم على هذا الأساس، فهم غير مستعدين للتعامل مع العالم ببرجماتية سياسية إلا بمقدار ما تسمح به «السياسة الشرعية».
القاعدة.. العنصر القوي في معادلة هذه المرحلة، فقد التحقت مجموعة من جنودها بطالبان، ودعمها أسامة ابن لادن بأمواله، وكان الغرب ساكتاً عن ذلك، باعتبار أن القاعدة سوف تذوب في الإمارة، وتصبح من ضمن حسابات وجودها. بيد أن الأمر سار بعكس تفاؤلهم، حيث أصبحت أفغانستان منطلقاً لعمليات ابن لادن الذي انتقل إليها عقب إبعاده عن السودان، فنفّذ خلال تلك الفترة عدة عمليات؛ منها: في نيروبي ودار السلام، والمدمرة كول باليمن، وتتوجت بالهجوم على أمريكا في عقر دارها، والتي لم تشهد مثلها في كل تأريخها، وهي هجمات 11 سبتمبر 2001م، على برجي التجارة بنيويورك، والبنتاجون بواشنطن. وبغض النظر عن الجدل حول مَن وقف حقيقةً وراء هذه الهجمات، إلا إنها حُسِبت على القاعدة، فطلبت أمريكا من طالبان تسليم ابن لادن فرفضت، فهي مدينةٌ للقاعدة بنجاحها، ولا يمكن أن تفعل ذلك بحسب «السياسة الشرعية». وكانت النتيجة أن غزت أمريكا أفغانستان واجتاحت طالبان.
لم تمت طالبان بالاجتياح، بل أخذت تجمّع فلولها، وتحولت إلى مقاومة وفق تكتيك «حرب العصابات»، ولم ينفع أمريكا تشكيل الحكومة بالعناصر الموالية لها، من التقهقر في المجتمع، فبالإضافة لتعاملها المتوحش مع المعارضين؛ فإن من اعتمدت عليهم في الحكومة كانوا موظفين، يستغلون الحماية الأمريكية ليثروا بأكبر قدر ممكن، ويبدو أنهم كانوا يشعرون بأن أفغانستان ستلفظهم فور رفع أمريكا يدها عنهم، وهذا ما حصل، حيث تزاحموا على المطار هرباً منها؛ حينما بدأ جند طالبان بنشر عمائمهم السود على أرض الأفغان عقب الاتفاق مع الأمريكان.
أما طالبان فكانت تتمدد؛ سياسياً واجتماعياً في أفغانستان، التي لم يتغيّر هيكلها الاجتماعي، فهو لا يزال يطمح في حكومة إسلامية قاتل لأجلها أربعين عاماً، ولكن صحب هذا التمدد تحولات جذرية في الحركة، ولا عجب.. إذ إن الضربة الأمريكية أطارت بمفارق الحركة، ومزّقتها أشلاء، وأبادت خضراءها، وأصبحت جذاذاً متناثرة في جبال أفغانستان المشمخرة وأوديتها الهاوية. وهنا تكمن قوة الحركة، حيث استطاعت أن تجمع شتيتها من جديد. لكن بعد مقتل زعيم القاعدة ابن لادن وموت أمير طالبان محمد عمر؛ أصبح الجو آيلاً للتحول الذي فرضه الواقع، وبدأت قيادات جديدة تأخذ وضعها الريادي؛ وفي مقدمتهم السياسي عبدالغني برادر ذو التوجه الواقعي منذ الإمارة السابقة، والمرشح الأبرز لرئاسة الحكومة القادمة.
- مرحلة الإسلام السياسي: إن هذا التمكن لطالبان المفعم بالديناميكية؛ هيأ لها أجواء العودة، وكان التنبؤ بذلك منذ أكثر من عشر سنوات. بيد أن قيادات الحركة في مراجعاتها؛ لاسيما.. القيادة التي في قطر؛ وقعت تحت الضغط الأمريكي، وإغراءات الإسلام السياسي؛ وهو نظرية برجماتية تتبنى «فقه الواقع»، الذي أعطاها فسحة واسعة للعمل متحررة من ظواهر النصوص، والتركيز على «مقاصد الشريعة».
بإعمال هذه النظرية.. فمن المتوقع أن نرى تحولاً في تعامل طالبان مع المجتمعَين الأفغاني والدولي، حيث ستخف وطأة العنف، وتتسع مساحة قبول الآخر، وتبدأ الإمارة الجديدة تحسب حسابها لحقوق الإنسان والمرأة، وسيصبح الأمريكان أعداء الأمس واقعاً ينبغي التصالح معه، والأهم.. أن طالبان ستتخلى عن احتضان الجماعات العنيفة، لا أقصد داعش المرفوضة من طالبان، لأنها نبتة لم تنمو في زرع الإسلام السياسي، والتي قد يكون نزالها معها عنيفاً، وإنما أقصد القاعدة، حيث لن تجد لها خندقاً في أفغانستان الجديدة، وستذوب عناصرها المتبقية في سياسات طالبان، وتبدأ الإمارة تستجدي الاعتراف الدولي وقبول الشارع الإسلامي.
لن تتحول طالبان عن سياساتها القديمة بضربة لازب، إنما بمرور الأيام ستجد نفسها كأي حزب سياسي إسلامي سعى للسلطة. ولكن علينا ألا ننسى العرقيات الأفغانية المناوئة لطالبان، ومعها الجيش المنحل، المتوقع.. بأن يعدّوا أنفسهم لمواجهة جند الإمارة، وهذا ما يصعّب من مهمتها، إلا أنه من غير المتوقع عودة الصراع بين هذه القوى بالضراوة السابقة، وسيرضخ الجميع للتشارك في السلطة؛ وفق المزاج الأفغاني ومقررات الإسلام السياسي.
وأخيراً.. هل المسلمون أمام عودة جديدة للإسلام السياسي؟
الجواب: الإسلام السياسي.. لم ينفضّ سامرُه بعد، وسيظل يروي حكايته مدة ليست بالقصيرة، لكنه سيشهد تحولات أكبر باتجاه «مجتمع مدني»، وهو بهذا يطوي سُجُفَه بنفسه. أما طالبان فهي في بدايات تطبيق سياسات الإسلام السياسي؛ المنبهر بانتصاراته، والمتحمس لتطبيقاته، والتي تبدأ متعلقة بأوتاد مُثُلها العتيقة، حتى تسيح في طوفان الواقع، فيبرد وهج صرامة المبادئ لتحل محلها ليونة مراعاة الأوضاع المحلية والمطالبات الدولية.
