ضرورة ترشيد الإنفاق الفردي والأسري
تتشكل الثقافة تراكميا عبر فترات زمنية طويلة نسبيا حسب قوة المؤثرات الآنية التي تصنع الثقافة، ثم تتفرع عنها أنماط سلوكية موازية ناتجة عن هذه الثقافة العامة وتمظهراتها، وللثقافة أشكالها السلبية كما أن لها أشكالا إيجابية، ومن أشكال الثقافة السلبية التي اكتسبتها مجتمعات الخليج -خلال ما يزيد عن نصف قرن من الزمن- الثقافة الاستهلاكية.
الثقافة الاستهلاكية التي تعبّر عن النزعة للتملك حتى في حالة عدم الحاجة للملكية مقابل التكاسل في السعي للإنتاج.
وليست الثقافة الاستهلاكية سمة للأفراد وحسب، بل حتى المؤسسات القائمة على تعزيز الإنفاق بمستوياته دون التفكير في إمكانية الإنتاج لتوفير مصدر أو مصادر دخل ثابتة لمستقبل غير مضمون، أو اقتصاد متغير غير مأمون.
وإن كنا قد عايشنا واكتسبنا هذه الثقافة السلبية عبر عقود من الزمن فهي في أوضح تجلياتها خلال العقد الأخير؛ حيث الانفتاح الشبكي الرقمي وتداخلات وسائل التواصل الاجتماعي وتعزيز الإعلام غير التقليدي لها عبر صنع وتسويق كثير من أبطالها ورموزها ومروجيها بغض النظر عن الحالة الاقتصادية للشعوب أو تأثيراتها على الحالة الاجتماعية، فإن كنا ننصح بعدم الذهاب للأسواق تحجيمًا للإنفاق صار ذلك اليوم مطلبًا صعبًا لأن الأسواق جاءت إلينا مقتحمة عقر دورنا.
النزعة الاستهلاكية تشكلت عبر مراحل لتنتشر وتبقى طويلا في العالم أجمع، وما العولمة إلا إحدى وسائلها في تشكلات القرية الصغيرة وانفتاحها، ولكنها أكثر تجليا في مجتمعاتنا؛ فلا أقوى من ظهورها أوان جائحة كورونا والعالم يعاني أزمة عالمية على كل المستويات ويعاني كارثة اقتصادية تصورنا معها تلاشي الاستهلاكية واندثارها دون عودة.
رغم كل ذلك لم يُقدّر لهذه الثقافة أن تختفي، بل انكمشت قليلا وحسب إذ أُغلقت المنافذ الجوية والبرية والبحرية التي كانت ميسرة لأسطول إمدادات الكماليات من السلع تعزيزًا لها لفترة من الوقت لتتسع بعدها وتتمطّى عبر ازدهار التسوق الإلكتروني بمنافذه المبتكرة عالميًا وإقليميًا ومحليًا.
لعلّ الدعوة لترشيد الاستهلاك وتعزيز ثقافة الادخار والتوفير كان ضرورة لعقود مضت لما لهذه الثقافة الاستهلاكية من نتائج وخيمة على الأفراد والمجتمعات، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: تشجيع ارتفاع أسعار السلع واحتكارها بارتفاع الطلب على هذه الكماليات غير الضرورية، ثم التأثير النفسي حين يعجز الفرد عن مجاراة تسارع إنتاجها و كلفتها الباهظة، ولا ننسى آثارها الاجتماعية إذ يميل الجميع للرغبة في التملك والتخزين ومحاكاة مشاهير العالم الرقمي الافتراضي في الحصول على هذه الكماليات حتى في حال عدم الحاجة إليها، ثم تقويض الأُسَر في حال عدم القدرة على التشبه بالأغنياء في تملك الكماليات ومضاعفتها؛ لباسا وإلكترونيات ومركبات ومنازل فارهة وحتى مشروبات أو قهوة، كلها على ركاب الجمهور عالميًا أو محليًا لا لأنها ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها، فيتم تأجيل الأهم لحاقا بالأقل أهمية!. ولو بدأنا بالقهوة (أبسط الكماليات وتسويقها كضرورة) فإن حصول الفرد على كوب قهوة يوميا يعني إنفاق 30 ريال شهريًا للفرد، فماذا لو كان هذا الفرد طالبا ما زال على مقاعد الدراسة؟! وماذا لو لم يكن محبًا للقهوة أصلا لكنه حريص على التقليد حتى لا يُظن به الرجعية والتأخر عن ركابِ المعاصرة والتمدن الذي يتمثل لديه في اللحاق بكل صرعات الموضة تكريسًا لأشكال مختلفة من المجتمعات الاستهلاكية؟ وماذا لو أنه يكتفي فقط بتصوير تلك القهوة أو ذلك المنتج لتسجيل اسمه ضمن موكب المستهلكين للمنتج «الترند» فقط دون شرب القهوة أو استخدام المنتج؟!.
تعاني الطبقة الوسطى بالطبع أكثر ما تعاني من هذه الثقافة المستنزفة مواردها وطاقاتها، إذ تتكفل الحكومة (ممثلة بمؤسساتها الاجتماعية) بضرورات طبقة محدودي الدخل، وتتكفل الطبقة الغنية بمتطلباتها ضرورات وكماليات، لذلك صار السعي حثيثًا لزامًا لتعزيز ثقافة الجميع نحو ضرورة البعد عن ثقافة الاستهلاك الاستنزافية رغم كل مغرياتها الحالية من إعلانات تجارية ونماذج رقمية تسويقية حقيقية أو وهمية من مشاهير الرياضة والغناء ووسائل التواصل الاجتماعي، وهذا السعي لن يصل مبتغاه بجهود فردية مبعثرة أو متباعدة زمنيا، بل لا بد من جهود مؤسسية مجتمعية مراقبة من جهة لواقع التسويق الرقمي للسلع والبضائع، وساعية من جهة أخرى لتنويع الإنتاج والتركيز على الضرورات من مأكل و ملبس ومسكن. كل ذلك تشكيلا لوعي عام بضرورة الاستقلال وعدم المقارنة موظفين كل وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي وصولًا لاستقرار اجتماعي نشعر معه جميعا بالأمان.
وختاما نستذكر الجائحة إذ تَوفرَّ لدول الخليج جميعها النفطُ والمركبات والكماليات وتلقّت جميعها كذلك صدمة عجزها عن توفير الغذاء مع تداعيات الأزمة عالميا، ألا يكفي هذا الدرس التاريخي لنتعلم أفرادًا ومجتمعات أن «الأمة التي لا تنتج تموت ولو كانت جبالها من الفضة وسهولها من الذهب»؟! نستذكرها مع قائلها أمين الريحاني ونأمل أن نعبر معا هذه المرحلة بتأسيس وعي عام بالعناية بالأولويات والضرورات في الحياة دون تقليد زائف أو محاكاة جوفاء، أن نؤثر في محتوى العالم الافتراضي إيجابيًا لا أن نتأثر به سلبيًا ليقودنا ومجتمعاتنا إلى هوة سحيقة وتهلكة لا شك في مآلها.
حِصَّة البادية
