صورة الذات في الآخر
17 نوفمبر 2025
17 نوفمبر 2025
إن الذات باعتبارها وجودًا موضوعيًّا صعبة الفهم، ومعقّدة جدًّا؛ إذ تتطلب معرفتها سبر أغوارها النفسية وما يرتبط بها من أفكار، ومعارف، وخيالاتٍ، وتعاملات مع الخارج وغيره. ومن هذا الجانب يُمكن فهم ما جاء في بعض كتب التراث أن «من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ فهذا التعقيد مع الضعف، وهذا التركيب مع العجز يفضي إلى معرفة الله.
ومن ضمن هذا التعقيد أن علاقة الذات مع الآخر الخارج عنها تسترعي الانتباه أيضًا؛ فإنها بطريقة ما تحتاج إلى وجود هذا الآخر لتعريف ذاتها، ومعرفة موضعتها وما ينقصها وما يحسُن فيها؛ فتصبح العلاقة مع الآخر ضرورية للوجود، ولفهم الذات التي هي في الحقيقة غير مكتفية بذاتها، بل مرآة تنعكس عبر الغير. فحتى مع توصلّها لبعض المعارف الأولية إن كانت لوحدها ـ كما في قصة حي بن يقظان مثلا ـ إلا أنها تبقى في حالة من الحاجة للتواصل ومعرفة الخطأ في التأويل أو الأفكار الأخرى الأفضل؛ وبذا هي بحاجة للآخر الذي يشاركها في التفاصيل اليومية. ولعل قصة النبي آدم مع حواء تدل على ذلك دلالة واضحة.
وفي التراث العربي والإسلامي يتجلى ذلك في عديد من المقولات، منها مثلا الأحاديث النبوية من قبيل «المرء على دين خليله...» و«إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء...» وغيرها، وكذا في العصور اللاحقة؛ فمن الذين حاولوا فهم أهمية فهم الذات من خلال العلاقة مع الآخر كان الجاحظ.
على سبيل المثال؛ في رسالة المعاش والمعاد يقول :«فلا تكونن لشيء مما في يدك أشدّ ضنّا ولا عليه أشد حدبًا منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء... ولست منتفعًا بعيشٍ مع الوحدة، ولابد من المؤانسة».
لذلك فإن صقل الذات يكون بالاحتكاك بالآخر، ومعرفته، ومعايشته، ومحاولة التحاور معه؛ حتى يسمح للذات أن تعلم موقعها وموضعها.
أما الانغلاق فهو مضنّة التطرف وفساد المزاج والنفس؛ ولذلك ترى أن أكثر التطرف في المجتمعات المنغلقة على ذاتها؛ لأن كل غريب عنها مسموم، وكل بعيد مذموم. أما المخالط فإنه يستشعر المشتركات الإنسانية بينه وبين الآخرين ـ الخوف، الأمل، الضعف، الحب...- التي تجعله يشعر أن الآخرين يمتلكونها كذلك، حتى لتُشكّل عنده أساسًا لفهم أعمق للذات من خلال فهم الآخر والتقرب عنده، وما يعيشه من أفراح أو أتراح.
من النقاط المهمة في هذه المسألة أيضًا أن تكون خطوة الاعتراف بإنسانية الآخر خطوة تجاه المصالحة مع الذات، ومن خطوات الاعتراف بإنسانية الآخر النظر إليه والاعتراف بوجوده.
ومما يُمكن التمثيل عليه في هذه المسألة أن العامل البسيط الذي نمرّ عليه يوميًا، فيقدم خدمة ما مقابل مبلغ بسيط يصبح هامشيًّا إن لم نعترف بوجوده؛ إذ يصبح الأمر اعتياديًّا، بل يتحول إلى استحقاق وحشي، وبالتالي يصبح في الهامش إلا بمقدار ما يقدم من خدمة فقط. وهذه واحدة من عمليات نزع الإنسانية عن الآخر وتجريده ـ بل تجريد الذات أولاـ من التراحم الممكن بناؤه، حتى ليكون آلة للخدمة فقط، لا إنسانًا ذا سياقاتٍ إنسانية وثقافية ومجتمعية كان قد جاء منها.
قِس عليه أن نزع الإنسانية هذا ينطبق على جميع الناس الذين نمتلك علاقات «مادية» معهم أو لا نمتلك أي علاقات معهم من الأساس، فنضعهم في الهامش دون محاولة التقرّب من الإنسان بما هو، لا بما نعتقده عنه، ما يجعل فهمنا لذواتنا ناقصًا؛ لأن إنسانًا ما بقي في الهامش كان يُمكن أن يرينا جانبًا آخر من ذواتنا التي لم ندركها.
إن البحث عن المشتركات الإنسانية، والقاعدة التي يُمكن أن يقف عليها الجميع بطريقة ما دون علاقات قوة، يخفف من القسوة والتوجس تجاه الآخر المختلف؛ حيث يجعله في دائرة الاعتراف.
ولا يُعتقد من هذا أن كل «آخر» لا بد أن يعترف به؛ حتى لا يؤخذ الكلام في غير محامله؛ إذ الأمر معتمد على المنطلقات الإبستمولوجية للفرد، وما يحدده في من يعترف به أو لا، فكلّما وسّع دائرة المعترف بهم وقلل الهامش كان أفضل، لكن ذلك لا يعني محو الهامش بالكامل؛ لأن تلك طوباوية لا يُمكن الوصول إليها مما تشكّل في المحصلة نوعًا من ضعف، ضعف ادعاء التسامح مع الجميع، حتى ليصبح المقتول والقاتل، والمجلود والجلاد، والمصلوب والصالب جميعهم في نفس المقام وفي ذات المرتبة، وهذا ما لا يُمكن تحققه إلا عند الضعيف الخاضع؛ إذ تحققه عنده لا لسبب أخلاقي، وإنما بسبب عدم امتلاكه القوة المادية والفاعلية النفسية لا أكثر.
عود على بدء؛ في اللحظة الراهنة من لحظات اختبار معرفة الذات من خلال تمثل الآخر مساءلتنا واجبة لأنفسنا عما يحدث في السودان.
إن هذه اللحظة تخلّصنا ـ إن وعيناها بشكلٍ جيد ـ من الشوائب التي بقيت عالقة في أذهاننا كثيرًا ليست اللحظة السودانية مفردة، وإنما كل ما يدخل فيها من أحداث في منطقتنا العربية؛ إذ تعيدنا لمساءلة ذواتنا عن تعريفها لنفسها كيف نعرّف أنفسنا، وإلى أي مدى شكّلت الدولة الويستفالية تعريفاتنا عن أنفسنا المختزلة والمفصولة عن السياقات الكبرى التي نحن بكلّ شكلٍ من الأشكال مرتبطون بها، وإلى مدى يُمكن إعادة تجسير هذه العلاقات التي قطعتها الحدود، والشعارات، والخيالات، والمؤسسات الحديثة بكل أخطبوطيتها حتى في أقصى مواضع الخيال.
وفي الوقت ذاته تعيدنا اللحظة السودانية الراهنة إلى سؤال جوهري هو: إلى أي مدى نشعر أن هذه اللحظة تعيدنا إلى ذواتنا ـ أي نحن الآمنون مجازيًا من الحدث ـ التي هي في الوقت نفسه ذواتهم ـ أي الذين يقعون حقيقةً في الحدث ـ، وكيف يُمكن أن نمزج الذوات لتكون ذاتًا واحدة يفهم من خلالها كل فرد نفسه أكثر؟
إدراك مكان الذات يكون بالانفتاح على الآخر الذي يشكّل مرآة لمعرفة تفاصيل ليست معزولة وليست مجردة، بل هي في صلب الذات لا يُمكن الخروج منها. ولذلك فإن الخلطة معه، ومعرفة المشتركات، إضافة لإدراك المشتركات الإنسانية التي هي المفاهيم الكبرى ـ وإن اختلفت التأويلات فيها بعد ذلك ـ مثل الأمل والخوف والحب؛ تجعل الذات أكثر وضوحًا وتعطيها فسحة لتغذية المحبة بدل الكراهية، والتسامح بدل التطرف، والإيثار بدل الأنانية، والجماعية بدل الفردانية.
